مقالات
الاختفاء في العلاقات العاطفية.. حين يتحول الأحباء إلى أشباح
2024-11-10"كانت علاقتنا رائعة، كلانا يحب الآخر، لم تحدث مشكلة بيننا، اللقاء الأخير الذي جمعنا كان سعيدًا وحميميًا للغاية، تحدثنا وضحكنا وأكلنا، فعلنا كل ما يفعله المحبون، لأفاجأ في الصباح التالي بأنها رحلت. هكذا بمنتهى البساطة، رحلت واختفت نهائيًا بعدها. بحثت عنها في كل مكان أعرف أنها قد تذهب إليه، حاولت التواصل معها بكل الطرق الممكنة، تحدثت مع أصدقائها، ولم أصل إلى شيء. فاتت شهور وكأنها تبخرت لا أثر لها على الإطلاق. تأثرت بالأمر كثيرًا لدرجة أنني استعنت بطبيب نفسي كي يمكنني تجاوز الأمر، ولا أعتقد أنني نجحت في ذلك حتى الآن".
هكذا حكى لي "هاني سعد"*، 40 عامًا، عن تجربته مع اختفاء شريكته من حياته فجأة.
يأتي مصطلح الاختفاء أو "Ghosting" الذي ظهر حديثًا منذ عدة سنوات، من كلمة "Ghost" والتي تعني شبح. مع ازدياد مواقع المواعدة الإلكترونية، انتشر المصطلح للتعبير عن حالة الاختفاء المفاجئ في العلاقات، حيث يختفي الشخص كالشبح. رغم حداثة المسمى، يمكننا القول إن الاختفاء أو الانسحاب أو الهروب أو سمّوه كما شئتم، سلوك ليس بجديد في كتالوج العلاقات الإنسانية عمومًا والعاطفية على الأخص بل موجود حتى من قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي.
قد يظن البعض أن الاختفاء يقتصر على العلاقات العاطفية، لكنه قد يحدث في أي علاقة إنسانية أخرى كالصداقة أو العمل أو داخل الأسرة حتى.
للاختفاء صور عديدة ومراحل مختلفة، قد تحدث بالتدريج أو بشكل مفاجئ. فقد يكون اختفاء أحدهم عبر تجنب التواصل المباشر معك لكن على الجانب الآخر يستمر في التفاعل مع ما تكتبه أو تنشره على حساباتك على منصات التواصل الاجتماعي وكتابة التعليقات. وقد يكون اختفاء أحدهم على هيئة إلقاء فتات خبز لك أو ما يطلق عليه "breadcrumbing" إذ يتفاعل معك أونلاين أو يرد عليك إذا ما أرسلت له رسالة أو غيرها، لكنه لن يبادر بالتواصل معك لمدة قد تصل إلى أيام أو أسابيع، ما يسبب لك شعور بالارتباك حول وجود علاقة حقيقية من عدمها.
لماذا يختفي البعض بشكل مفاجئ؟
الأسباب التي تدفع البعض للاختفاء بشكل مفاجئ تختلف وتتنوع من شخص إلى آخر، لكن يمكننا القول بأن هناك مجموعة من الأسباب الشائعة لدى الكثيرين، منها:
- أن يكون الشخص قد تخطى العلاقة واستكمل حياته بشكل طبيعي دون الاهتمام بإخبار الطرف الآخر.
- البعض يظن أن إخبار الطرف الآخر برغبته في إنهاء العلاقة قد يجرح مشاعره/ا بشكل كبير، وعليه يفضلون الانسحاب في هدوء -من وجهة نظرهم طبعًا-.
- البعض يشعر بالحرج وعدم القدرة على المواجهة وإجراء حديث مع الطرف الآخر في مثل هذه المواقف الصعبة.
- أن يكون الشخص مشغولًا للغاية أو مضغوطًا بسبب أحداث يمر بها في حياته مثل ضغوط العمل أو مشكلات صحية أو مادية أو نفسية. يفقد البعض تركيزه في ظل هذه الظروف، وبعد فترة من الوقت يدركون الأمر ولكنهم يظنون أن الأوان قد فات على الاعتذار وإبداء الأسباب.
لذا يؤكد العديد من المعالجين النفسيين والمختصين في العلاقات الأسرية والزوجية أن عليك دائمًا أن تعرف أن الأمر لا يتعلق بك دائمًا، بل بالشخص الذي قرر الاختفاء فجأة. نعم، أنت من يقع عليه الضرر بشكل مباشر، لكن عليك ألا تفكر أن اختفاء الطرف الآخر يعني بالضرورة أنك من يقع عليه اللوم أو لديك مشكلة ما، بل هو انعكاس لكيفية تصرف هذا الشخص في المواقف الهامة في حياته.
دوامات الاختفاء النفسية
تحكي لي سماح مصطفى، 30 عامًا، عن تجربتها مع الاختفاء قائلة "كنا صديقين لعدة سنوات، في يوم صارحني بحبه. كان دائم السؤال والتواصل، لكن ذلك اختلف منذ أن أعلن لي عن مشاعره. لم يبادر حينها بالاتصال إلا نادرًا. قد يغيب لأسبوعين دون رسالة واحدة، وبعد محاولات عديدة للفهم وطلب مقابلته أكثر مرة لم أجد سوى الهروب. أنا شخص قَلِق للغاية وكان هو على علم بذلك جيدًا، لذا اندهشت من طريقة تواصله المثيرة للقلق والتساؤلات دون مراعاة لي. توقفت عن إرسال الرسائل له بعدها وتجاهلت وجوده تماما لشهرين ثم حذفته من جميع وسائل التواصل لديّ. حتى هذا الوقت وبعد مرور سنتين، لم يحاول أن يتواصل معي ويشرح لي ما الذي حدث، شعرت أنني تعرضت لتلاعب شديد.. والأسوأ أنني فقدته كصديق إلى الأبد".
عند تعرضك للاختفاء بدون إبداء أسباب على الإطلاق، يصيبك الارتباك أول الأمر، تقع في حيرة بالغة لأنك لا تدري ماذا حدث ويحدث. في البداية يحاول أغلبنا معرفة أسباب الاختفاء المنطقية هل الطرف الآخر مشغول/ة؟ مريض/ة؟ في أزمة ما؟
مع إدراك حقيقة أن هذا الشخص قرر قطع علاقتكما فجأة تراودك عدة مشاعر قد تبدأ بصدمة شديدة خاصةً إن كانت تلك المرة الأولى التي تواجه أمرًا مماثلًا. الصدمة يليها حزن، وقد تتحول المسألة إلى غضبِ عارم. قد تدخل في حالة توتر شديد، وكالعديد من الناس قد تبدأ في تفنيد كل الاحتمالات الممكنة لاتخاذ هذا الشخص قرار الانسحاب من حياتك، لينتهي الأمر بتوجيه اللوم إلى نفسك.
الاختفاء المفاجئ يؤثر بالسلب على الثقة بالنفس لدى العديدين، ويدخلهم في دوامة من الحزن؛ فقد يرى البعض أن الاختفاء يعني أنهم لم يكونوا فقط غير جيدين لاستمرار الطرف الآخر في علاقته بهم، لكنهم أيضًا لم يستحقوا حتى تبرير للأمر.
بالطبع يزداد الأمر سوءًا إن كان الشخص يعاني من مشاكل تتعلق بالخوف من الهجران أو الثقة في النفس من الأساس. كما يرتبط الأمر كذلك بمدى قوة العلاقة التي كانت تربط الشخصين وطول هذه العلاقة. فكلما كانت علاقتهما قريبة وحميمية أكثر، كان الاختفاء أكثر إيلامًا وقسوة.
ماذا عن الجانب الآخر من العلاقة؟
يخبرني "أحمد عادل"، 54 عامًا، انطلاقًا من تجربة سابقة له، أن الاختفاء ربما خفف من عليه بعض الضغوط وشعر بالتحرر في وقتها، لكنه فيما بعد لم يسلم من تأنيب الضمير وتوجيه اللوم إلى نفسه.
تطرق بعض المعالجين النفسيين إلى كيف يؤثر سلوك الاختفاء المفاجئ بالسلب أيضًا على الشخص الذي يتبعه في علاقاته. اندهشت في بادئ الأمر لكنني أحببت استطلاع آراء البعض في دوائري الاجتماعية، واتفق بعضهم مع هذا الرأي.
يرى البعض أن الاختفاء المفاجئ في أغلب الأحوال يأتي خوفًا من المواجهة، والاستمرار في هذا السلوك لن يكرس سوى لمزيد من الضعف والجبن بداخل صاحبه وبالتأكيد سيؤثر على علاقاته المستقبلية. كما أنه يُفقِد الشخص احترام الآخرين له، تخبرني صديقتي أن الأذى الناجم عن هذا السلوك يقضي على أي أمل في عودة الأمور إلى طبيعتها مرة أخرى، أو حتى الإبقاء على علاقة إنسانية محترمة ولطيفة مع الطرف الآخر.
على جانب آخر يرى أحد أصدقائي أن الاختفاء هو نوع من أنواع العقاب، وأن المرة الوحيدة التي لجأ فيها لهذا الأمر كان عند تعرضه للخيانة. قد يرى البعض الخيانة أمر يستلزم المواجهة لكنه رأى أن قطع العلاقة نهائيًا هو الأنسب له، فلا يحتاج إلى مواجهة الطرف الآخر التي تعلم تمام العلم ماذا فعلت.
التعرض للرفض أم للاختفاء؟
تخبرني سلمى علي، 32 عامًا، من خلال تجربتها مع التعرض للرفض والاختفاء أن كلا الأمرين مُر. من الصعب أن تتعرض للرفض وربما سيترك ذلك في روحك بعض الندوب والحزن، لكنه على الأقل لن يترك لك القلق والاحتمالات اللانهائية لتلتهمك حيًّا مثلما يحدث مع الاختفاء. الرفض على صعوبته يضعك أمام حقيقة لا مجال للتساؤلات فيها، يعرضك لجرح كبير لكنه يعفيك من قلق وضغوط أكبر قد يسببها الاختفاء. كذلك علينا أن ندرك أن بعض الرفض يأتي مصحوبا بأسباب وبعضه قد لا يأتي بالأسباب الكاملة أو الحقيقية.
فكرت ماذا لو كان الأمر بالعكس، لذا سألت بعض أصدقائي أيهما سيختارون: أن يرفضوا أحدهم أم أنهم سيفضلون الانسحاب من حياتهم بهدوء؟ فضَّل أغلبهم أن يكون صريحًا في إخبار الطرف الآخر بموقفه إلا في حالات بعينها رأي فيها البعض أهمية قطع العلاقة فورًا والاختفاء من حياة الطرف الآخر، منها العلاقات المؤذية التي تتضمن عنفًا جسديًا أو نفسيًا، والاستمرار فيها يعني تعريض نفسك للخطر. العنف النفسي مثل التلاعب العقلي، أو تعمد تقليل الطرف الآخر من شأنك وتشكيكه في نفسك وقدراتك، أو إهانتك، أو استغلال مواطن ضعفك وقت الخلافات.
لست مضطرًا للاختفاء
إن كنت الطرف الذي يريد إنهاء العلاقة؛ لا حاجة للاختفاء بشكل مفاجئ. يمكنك التعبير عن رغبتك في عدم الاستمرار في علاقتك بأحدهم خاصة فيما يتعلق بالعلاقات العاطفية ومرحلة المواعدة من خلال رسالة نصية قصيرة على أقل تقدير تعبر فيها عن احترامك للشخص وتقديرك للوقت الذي خصصه من أجل أن تعرفا بعضكما بشكل أفضل، مع إيضاح أن الأمر لم يناسبك وأنك تتمنى له التوفيق.
طبعًا حسب طبيعة العلاقة عليك اختيار الطريقة الأنسب لإنهاء العلاقة إما عبر رسالة نصية أو مكالمة هاتفية أو ربما لقاء وداع أخير. فإن لم تستقم الأمور بينك والطرف الآخر للاستمرار في علاقتكما، وهو أمر طبيعي، يظل جديرًا باحترامك له وإنهاء الأمر بأسلوب لائق. لذا استجمع شجاعتك وكن هادئًا، وقل ما لديك.
والآن.. كيف تتخطى الأمر؟
تَقَبَّل الأمر. لا تحاول اجترار الذكريات. يرشح بعض استشاريي العلاقات أن ترسل رسالة أخيرة بدون انتظار رد عليها لتخبر الطرف الآخر أنك لن تنتظره لمدة أطول من تلك، فلا يمكنك إهدار المزيد من وقتك ومشاعرك، مع تمني التوفيق له . تأتي هذه الرسالة كوضع لكلمة نهاية بالنسبة للعلاقة.
كذلك لا تحاول معرفة أخبار الطرف الآخر لأن ذلك لن يقدم لك نهاية مُرضِية للعلاقة وبالطبع لن يقدم تفسيرًا لسلوكه تجاهك، فقط سيفتح جرحك من جديد ويجدد ألمك. حاول المضي قدمًا في حياتك. حافظ/ي على احترامك لنفسك وابق/ي على كرامتك مصانة واستمر/ي في التركيز على صحتك وسعادتك ومستقبلك، فقط اترك/ي هذا الشخص إلى غير رجعة.
ماذا لو عاد معتذرًا؟
أحيانًا قد يظهر الشخص الذي اختفى من حياتك مرة أخرى. ربما يرسل لك رسالة عبر أحد الأصدقاء المشتركين أو رسالة إلى هاتفك أو أحد حساباتك على منصات التواصل الاجتماعي، يعتذر فيها عما بدر منه/ا تجاهك سابقًا، ويقدم تبريرًا لتصرفه. ربما ستحتاج إلى الاستماع لما يود إخبارك به، حيث يتطلب الأمر كثير من الشجاعة لدى بعضهم أن يعودوا مرة أخرى للاعتذار.
لكن على الجانب الآخر، عليك الانتباه جيدًا إلى طريقة تعامله معك، راقب/ي نمط سلوكه/ا حتى لا تتعرض/ين لصدمة جديدة. عليك أن تكون مدركًا لما يدور حولك قدر طاقتك حتى تتأكد/ي من صدق نواياه أم أن هذا الشخص فقط يمر بفراغ عاطفي أو ما شابه ولجأ إلى إحدى علاقاته القديمة لا أكثر.
إن لم تشعر/ي برغبة في معاودة الحديث مرة أخرى مع الشخص، تأكد/ي أن هذا حقك تمامًا، لا تضغط/ي على نفسك.
في الأخير، تتطلب العلاقات الإنسانية قدرًا كبيرًا من الشجاعة والصدق كي تبقى وتستمر من ناحية، مع الحفاظ على احترامنا لأنفسنا وللآخرين من ناحية أخرى. حتى عندما نتحدث عن إنهاء علاقة بين طرفين لا بد أن يحدث ذلك بشكل غير مؤذي، فتعبيرك عن عدم الرغبة في الاستمرار أو سماعك للأمر من الطرف الآخر ليس هينًا لكن بالتأكيد في هذه الحالة التحدث بصدق ووضوح واحترام أفضل من أن تترك يد أحدهم فجأة في منتصف الطريق وترحل.
* جميع الأسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية المصادر.