#حكايات_تشبهنا: الحكاية الخامسة: مي

2024-11-10

الحكاية الخامسة: مي

 

 

اختلاف الأيديولوجيات والأفكار لا يعني كوني خطأ أو صواب، هو يعني فقط كوني مختلفة… ألسنا جميعاً صورة فريدة من أنفسنا لا يجب أن تكرر. ألسنا صورة رائعة جديرة بالحب والتألق بتفرد عن الأُخريات! 

 

أنا مي، الابنة الكبرى لعائلة عاملة بسيطة من محافظة قريبة من القاهرة. بالرغم من أني لم أدرس الإعلام لكنني مع الثورة وجدت نفسي أعمل في هذا المجال. عملت في صحف وقنوات تلفزيونية محلية، وكنت أرسل أعمالي لوكالات عالمية كالـ CNN، وغيرها.

 

نشأتي وسط إخوة ذكور كانت صعبة، تعودت على انتزاع الحق بالقوة، كان أبي ذكورياً جداً وعانيت خلال طفولتي لمجرد كوني أنثى، حتى استقرت أحوالي. تم تعنيفي كثيراً، قد يكون أسبوعياً، وكان لهذا آثار كثيرة في حياتي.

لقد كنت متفوقة دراسياً ولكن تحصيلي خذلني في إحدى المواد الدراسية، ولم أنجح في دخول الكلية التي كنت أحلم بها. أبي رفض فكرة التعليم الخاص وأعلن أنه لديه مال لشيء واحد؛ الزواج. قلت له أني غير مهتمة بالزواج الآن وطلبت منه الاستثمار في تعليمي. كان رفضه رفضاً بشعاً وقاسياً، في حين أن أخي حصل على الدعم بعد الثانوية العامة ودخل جامعة خاصة كانت مصاريفها كبيرة جداً. التفرقة في المعاملة بيني وبين أشقائي خلقت فجوة لاتزال موجودة بيني وبين أبي ليومنا هذا.

 

علاقتي بوالدي بدأت في التحسن عندما رزقت بمولودتي، وبعد أن تقدم به العمر. أشعر بأن آثار معاملته  لي لازالت حاضرة لا سيما في حالات الشجار مع زوجي، لأنني أرى صورته فيه وكأني اتشاجر معه هو.

 

تعرفت على زوجي منذ خمسة سنوات، كانت تجمعنا صداقة لفترة طويلة. تعرفت عليه وأنا ألعب كرة سلة… كنت ألعب معه مرة وكسرت ساقه.

زوجي شخص متفوق مهنياً جداً وكنت أغار منه، وتفوقه يحمسني كثيراً أن أنجح. هو شخص داعم ودائماً "في ظهري"... الكثير من الرجال لا يتحملون ما تحمله، حتى أنه لا يفكر في معاتبتي، شخصية متفتحة، يشبهني كثيراً.

أمي امرأة طيبة، كانت تدعمني أحياناً وتضعف أحياناً… مغلوبة على أمرها. هي شخص داعم جداً، وكانت تتفهمني أنا وتقلباتي، وكانت تتكلم معي في مواضيع الثقافة الجنسية. عندما تجوزت سألتها هل من المفترض أن يتكلم معي أحد ويعلمني؟ لكنها قالت لي ستتزوجين طبيباً، ليس من المفترض أن أتحدث معكِ. لكنها كانت تتحدث مع شقيقاتها بصورة عادية عن تلك الأمور. كان بيني وبينها ثقة كبيرة جداً ولكن موقف حدث لنا وأنا في الجامعة كسر الرابط بيننا وهز الثقة بعده. كنت أحب شاب من الجامعة وعلى علاقة به بدون علم أهلي، وقام هو بإخبارهم في المنزل ووضع الثقة بيني وبينهم في اختبار صعب جعلها تتلاشى.

عندما قررت دخول الجامعة، كانت أمي تملك المال لتغطية تكاليفها، وطلبت منها أن أدخل الجامعة الخاصة وبذلك نضع والدي أمام الأمر الواقع، ولكنها رفضت. كانت تعلم مدى حزني بسبب ذلك الموقف، كنا أصحاب ومتفقين وذات مرة قالت لي "أنا أفكر مثلك"، لكن المشكلة أنها كانت تخاف من المشاكل والمواجهات وتريد طوال الوقت أن تعيش في سلام… طوال الوقت كانت لديها طاقة لمسامحة الجميع، وهذا ما كان يضايقني كثيراً.

على الرغم من كل هذا فأنا أدين لها بصفات جميلة ورثتها عنها، "الجدعنة والطيبة"، تحمل المسؤولية، لفترة طويلة لم يكن أبي موجوداً، كانت هي المسؤولة عنا وعن تربيتنا. أنا مستقلة وقوية مثلها، وحتى طهوي حلو  ولذيذ يشبه طهيها الرائع.

الثورة كانت محطة مهمة في حياتي، وأول محطة لنزولي الشارع مع الشعب، مع الملايين، كنت أشعر بأني أنا الشعب وكانت الثورة بالنسبة لي بمثابة انتفاضتي على ذكورية والدي. كان رافضاً لنزولي، ولكني كنت اتحدى وأنزل. عندما تخرجت من الجامعة وقررت أن أعمل، كنت أخذ صور للمظاهرات والأحداث، وتعرفت على مراسل وطلب مني العمل معه. كانت بالنسبة لي نقلة وخطوة في تحقيق ذاتي، وعندما كنت أعمل بشكل جيد وكان نتاج العمل رائعاً كنت أشعر بكينونتي جداً. كنت ما زلت مبتدئة، وللأسف كان هناك مشكلة عويصة، كان العمل ينشر باسم المراسل وهو من كان يحصل  على المقابل المادي، قررت أن أثور عليه، وسافرت للقاهرة بدون خطة. ذهبت لجريدة مستقلة خاصة، ولكني لم أحب أن أكمل العمل هناك. ذهبت لراديو مستقل وعملت به فترة حتى جائتني فرصة للعمل في الجريدة محل عملي الأخير. كانت هذه الفرصة شيئاً كبيراً بالنسبة لي، وكانت وقتها جريدة تقدمية ومختلفة، وأيام حكم الإخوان، كانوا ضد الإخوان.  

 

 

لم تكن هناك فرصة حقيقية للعمل على تطوير نفسك، في الأماكن المحترمة يطلب منك عمل تقرير واحد أسبوعياً، ولكن هناك كان يطلب مني أربعة تقارير في الأسبوع، وبعد فترة يحدد لك الراتب. كان إرهاق فكري وجسدي بشع. بعد فترة عملت في قسم الثقافة في نفس الجريدة، وكان عملي جيداً، جائتني فرصة للسفر لقبرص لحضور ورشة ولكن رئيس التحرير رفض الموافقة على السفر إلا إذا قمت بعمل حوار مع طليقة خاطف الطائرة المحلية والتي ذهبت لقبرص.

قمت بعمل حوار معها وكان ممتعاً جداً… كانت تجربة جميلة وبنفس الرحلة قمت بعمل حوار مطول مع خاطف الطائرة نفسه. كنت سأقابله في السجن لكن لم تتاح لي الفرصة.  كان شيئاً عظيماً جداً بالنسبة لي، وكنت أنفق على نفسي ومستقبلي في بيتي، وكنت أدفع الإيجار… كانت تجربة رائعة أنا فخورة بها. وأنا في الجامعة كنت أعمل مساعد مهندس، وكنت متفتحة على الحياة وجعلني ذلك أكثر جراءة.

 ابني غيرني كثيراً… كان قدومه بمثابة اختبار لي،  طوال الوقت عندي إحساس بالذنب، هناك شيء خاطيء، لابد أن أعطيه أكثر. جعلني أشبه أمي كثيراً، كانت قلقة جداً علينا، وأنا مثلها وأكثر بمراحل. كانت تتخيل أشياء والآن تأتيني أنا هذه الخيالات. كنت أخاف أن أتركه مع والده. على الرغم من أنها تجربة صعبة، أحياناً اتضايق من كوني لا أعمل بسببها، مشاعر مختلطة.

أشعر بأنني سأفتقده من الآن، ولكني سعيدة لأني بدأت انتبه لنفسي وحياتي. بدأت مشروعاً، أحاول أن أنشر الوعي والتمكين للسيدات مثلي، أحاول أن أجعلهم يختارون الملابس التي تناسب أشكال أجسادهم. لقد عانيت من التنمر طوال عمري لأنني طويلة القامة، وعريضة الكتف وممتلئة القوام قليلاً. كنت أسمع كلمات مثل "انتِ هضبة" و "انتِ ضخمة"... كانت تزعجني تلك الكلمات كثيراً.

هناك نقلتين حدثوا لي في حياتي، فرضت عمتي الحجاب عليا بالعنف في الصف الأول الإعدادي، ارتديته لمدة ستة سنوات، وخلعته بعد الثورة في 2011 مباشرة،  وبعدها أجبرني والدي على ارتدائه مرة أخرى، ارتديت الحجاب لمدة سنة كاملة، وحدثت مشاكل ومشاجرات كبيرة بسبب ذلك، حتى استطعت خلعه نهائياً.

أحلامي لحياتي المهنية هي أن أُصبح مهندسة، حتى لو أكملت الستين عاماً سأعمل على حلمي حتى أحققه، لكن الآن وجهت البوصلة لدراسة الإعلام الرقمي بتعمق و العمل به . التحديات المهنية كانت في العثور على عمل بالقاهرة، وعندما وجدت عمل كان الراتب قليل جداً. 

 

عملت بجريدة محلية، كان أجري ١٥٠ جنيه… كنت أعمل كالعبد. في تلك الفترة ساعدتني أمي بالمال، حتى أعطوني راتب، وناضلت كثيراً حتى تم تعييني. كان يجب أن تحارب ليتم تعينك. كان رفض تعيني لأني "ثورجية" ومتمردة، وعندما تم تعيني كان تحدي كبير لي، وعندما فصلوني كان تحدي لأني كنت أحارب ضد قضية معينة، ولكني لم أربحها على الصعيد المهني أو النسوي.

 

 

بعد هذا الموقف ليومنا هذا مازلت ابحث عن عمل بدون نتيجة. في الجريدة المحلية كانت هناك مجموعة هي التي تترقى وتتصدر الواجهة، وأنا لم أكن من ضمنها. لكنني كنت أُثبت نفسي في المكان الذي أعمل به. الفترة التي عملت بها بقسم المرأة، كنت أسافر كثيراً لتغطية الفعاليات، سافرت لبنان أربعة مرات ودبي مرتين، كنت سأعمل في لندن في الفاشن-ويك ولكن المسار المهني كله توقف.

تكررت التحديات والمواقف غير العادلة عندما كنت أعمل بمجلة سعودية، وحينما ترك مديري المجلة، تقدمت بطلب أن أشغل مكانه ولكن مع الأسف كان هناك شخص أخر، جاء مكان المدير وعلم أني كنت أود شغل هذا المنصب فبدأ يتربص بي. في الوقت ذاته جاءتني فرصة توقيع العقد مع محطة شهيرة ولكني كنت حامل فلم استطع قبول الفرصة وكانت تحدي خارج عن إرادتي.

 

لم يخذلني المجتمع النسوي في مصر في الأزمة مع محل عملي الأخير، بينما خذلني بشكل فج زملائي وزميلاتي في العمل، زميلاتي تحديداً خذلنني بتصرفاهن واختياراتهن. أنا حزينة لأنهن خذلوني وخذلوا مبادئهن. أقمن جروبات لإهانتي وللتقليل من شأني . أنا حزينة وأشعر بالخذلان من هؤلاء... من كانوا يتملقون ليصلوا إلى ترقية أو راتب أكبر، في حين كان رئيس التحرير يفصل الصحفيين\ات كما يتراءى له.

 

 

هناك من وقفن بجانبي، وهناك من كانوا يروجون أني إخوانية، وآخريات تعاملوا معي كأني "تائهة عليهن هدايتها". حاولوا التحكم بطريقة تفكيري، وفرض رأيهن في تحليل مواقف الدنيا و تصرفاتي معها. لكن خيبة الأمل الأكبر جاءت من أصدقاء العمل، دخلوا بيتي وتقاسمنا "العيش والملح" ولكنهم لم يصونوا ذلك. لقد كنت أتعامل مع الجميع باعتبارهم "أنا".

 

أحاول حالياً تجاوز الخذلان بمساعدة أخصائية نفسية، أمارس الرياضة للتخلص من القلق والتوتر، وأحاول تحضير دراسة الماجستير في قضايا النوع حتى أساند القضايا النسوية وليكن عندي علم أدافع به وليس حماس فقط. قدمت طلباً لمنحة ولكن لم يحالفني الحظ وكنت أعمل في ثلاثة أماكن في نفس الوقت من ال ٩:٠٠ صباحاً ل١:٠٠ بعد منتصف الليل.

 

لو عاد بي الزمن إلى الوراء ، كنت  سأخذ نفس المواقف، عندما سافرت لأمريكا كنت مسافرة على نفقتي الشخصية، وعند عودتي كنت مرعوبة من فكرة القبض علي لأن زملائي في العمل السابق كانوا يروجون أني إخوانية"، ولكن ذلك لم يحدث. الآن أنا أقف أمام المرآة وأقول لنفسي "هذه أنا، مي التي أحبها وأفتخر بها.".

 

أحلامي كبيرة وسقفها السماء ولا بد لها أن تتحقق. أؤمن بأن "مي" ستحقق ذاتها وستتألق حتماً بفضل الدراسة والعمل الدؤوب. صحيح أن الطريق لا تزال طويلة ولكني بدون شك على الطريق الصحيح.

 

 

مقالات شبيهة

ما أجمل الكتابة اليوم وما أشبهَ هذه بتلك..
ما أجمل الكتابة اليوم وما أشبهَ هذه بتلك..
المزيد ...
بلا حشومة : الجنسانية النسائية في المغرب
بلا حشومة : الجنسانية النسائية في المغرب
المزيد ...