مقالات
البكارة في تاريخ السينما المصرية.. عبء تحمله النساء وحدهن
2024-11-10برق ورعد وأمطار غزيرة، لهيب شمعة ينطفئ، ثم إظلام وقطع مفاجئ، تعاود بعده بطلة الفيلم الظهور وهي تحاول لملمة نفسها، والندم واضح على ملامحها، فيما يبدو الرجل لا مبال.
هذه هي الصورة التقليدية في أغلب أفلام السينما المصرية لمشاهد ممارسة الجنس الأولى خارج إطار الزواج، سواء كانت طوعية باختيار الشريكين، أو جبرية. في الحالتين، يظهر الندم على وجه المرأة فقط، فالعذرية في مجتمعاتنا عبء ثقيل لا تحمله سوى النساء. في حين لا ينظر المجتمع لممارسة الذكر للجنس خارج إطار الزواج كأمر مخل بالشرف، بل على العكس تعتبر مصدرًا للتفاخر بفحولته.
ويُجَسِّد المثل العامي" شرف البنت كعود الكبريت يشتعل مرة واحدة فقط" الارتباط الوثيق بين عذرية المرأة وشرفها في الوعي الجمعي العربي، والذي يعتبر (غشاء البكارة) هو الدليل الوحيد على شرف الفتاة، ومعيار قيمتها، رغم أن الدراسات الطبية أثبتت أن 43% فقط من النساء ينزفن عند ممارسة الجنس للمرة الأولى، ونحو0.03 ولدن بدون غشاء بكارة.
في طرحها لمفهوم الشرف، تمحورت نظرة السينما لشرف النساء حول العذرية، باعتبارها حجر زاوية في علاقة المجتمع بالنساء، وعلاقة النساء بأجسادهن، ربما تنوعت زوايا التناول ما بين المساءلة والإدانة، أو الاكتفاء بالرصد لكنها في أغلب الأحوال انطلقت من الرؤية الضيقة نفسها التي تربط شرف المرأة الأخلاقي بعذريتها الجسدية، حتى الأفلام القليلة التي حاولت إدانة الوصم المجتمعي للنساء ظلت أسيرة هذه النظرة مما ساهم في تكريسها في الوعي الجمعي، وخلق نوعًا من المقاومة لمحاولات التغيير.
منديل الشرف.. الدم المُشاع
بحسب تصريح صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2018، تجرى فحوص العذرية للنساء في 20 دولة على الأقل رغم كونه، وفقًا للتصريح، إجراء بلا مسوغات علمية حقيقية كما أنه يمثل تهديدًا لصحة النساء. في المغرب على سبيل المثال لا تزال اختبارات العذرية شائعة، حتى إن شهادة العذرية تعتبر ورقة مألوفة ضمن وثائق معاملات الزواج.
رصدت السينما المصرية هذه الظاهرة في عدد من الأعمال أبرزها "حادثة شرف"، 1971، إخراج شفيق شامية، والمأخوذ عن قصة قصيرة ليوسف إدريس يشكك أهل القرية في تعرض البطلة للاغتصاب، ويصرون على إجراء فحص لعذريتها رغم نفيها لشكوكهم. لتسير في موكب حزين مع النساء المتشحات بالسواد، وفي مشهد قاس، تكبلها النساء، وتتدافع الأيدي إلى جسدها، ليُعلَن أخيرًا عن احتفاظها بعذريتها. وفي المشاهد القليلة الباقية يتبع الفيلم التأثير النفسي لهذا الانتهاك عليها، والذي بدا أن تأثيره لا يختلف عن تأثير الاغتصاب الفعلي. منح الفيلم للبطلة اسم (بنات) وكأن الانتهاك الذي تعرضت له هو في واقع الأمر انتهاك لكل أنثى.
وإذا كان فيلم "حادثة شرف" المنتمي لسبعينيات القرن العشرين قد اختار قرية فقيرة مسرحًا لأحداثه، فإن أحداث فيلم "بنتين من مصر" والذي عرض بعد نحو أربعة عقود في عام 2010، إخراج محمد أمين، تقع في العاصمة، إلا أن إحدى بطلتيه توافق على إجراء فحص للعذرية، بناء على طلب عريس مرتقب رغم انتمائها لطبقة اجتماعية وتعليمية مرتفعة.
لا تقتصر فحوص العذرية على الفتيات قبل الزواج فقط، لكن ليلة الزفاف قد تتحول إلى فحص جماعي لعذرية العروس، ينتظر الجميع نتيجته أمام الأبواب ممثلة في بقعة حمراء على منديل أبيض كي تعلو الزغاريد ويرفع أبوها رأسه فخرًا بالشرف الذي تمكنت الابنة من صونه حتى تسليمه إلى الزوج، وهو مشهد يتكرر بثيمات مختلفة في العديد من الأفلام المصرية.
قد لا يقتصر الأمر على الانتظار أمام الباب المغلق، بل يمتد أحيانًا إلى دخول الآخرين حرفيًا إلى فراش العروسين، فيما يعرف بالدارجة المصرية بـ "الدُخلة البلدي"، وهو ما تناوله فيلم "دكان شحاتة" 2009، إخراج خالد يوسف، حيث تُجبَر العروس على الاستلقاء، في حضور أفراد العائلتين، بينما يلف الزوج إصبعه بمنديل أو شاش أبيض، ويدخله عنوة في فرجها لفض بكارتها. القضية نفسها طرحت في فيلم "الفرح" 2014، فعلى الرغم من عقد قران عبد الله وجميلة (ياسر جلال و جمانة مراد) لمدة 7 سنوات إلا أن زفافهما لم يتم بعد، وهو ما يعني أن المجتمع لن يتسامح مع ممارستهما الجنسية رغم كونها في إطار شرعي وقانوني، ولإصرار والد جميلة على "الدخلة البلدي" يضطر الحبيبان للبحث عن وسيلة لإجراء عملية "ترقيع للبكارة" وهو ما يعرضها لتحرش الطبيب الذي يجري العملية، وينظر لمريضاته ممن يضطررن لإجراء هذا التدخل الجراحي باعتبارهن نساء مباحات وبلا شرف.
السينما وجرائم الشرف
حتى يومنا هذا تقتل النساء في كل يوم باسم الحفاظ على الشرف، حيث يصبح فقد العذرية عارًا على العائلة لا يغسله سوى الدماء. يتتبع فيلم "دعاء الكروان"، 1959، للمخرج هنري بركات والمأخوذ عن رواية طه حسين النساء الثلاث آمنة وهنادي وأمهما، واللاتي يضطررن للعمل كخادمات. تتعرض هنادي للاستغلال الجنسي من قبل مخدومها مهندس الري، فيقتلها خالها أمام الأم المستسلمة لسلطته، ليصب انتقامه على الضحية متجاهلًا الجاني.
تقرر الشقيقة آمنة أن تنتقم بطريقتها، فتذهب للعمل في بيت المهندس، الذي يقع في حبها، لكن المفارقة أنها هي الأخرى تقع في حبه. وبينما لا يوقع طه حسين في الرواية أي عقوبة على المهندس، تلقى المهندس في الفيلم رصاصة الخال الذي عاد بغرض قتل آمنة.
أما فيلم "البوسطجي"، 1968، للمخرج حسين كمال، والمأخوذ عن قصة قصيرة للأديب يحيى حقي، فقد تجلى فيه إلقاء اللوم على المرأة سواء كانت ضحية للاستغلال الجنسي، أو كانت في علاقة عاطفية رضائية. فحين تعلم زوجة "سلامة" باستغلاله الجنسي لخادمته، تستدعي أقارب الأخيرة الذين يقتلونها دون أن توجه أي لوم إلى زوجها. وتدور الدائرة ليعلم "سلامة" بحمل ابنته "جميلة" من الشاب الذي رفض زواجها منه، مما يدفعه لقتلها وحمل جثتها في شوارع القرية، مفاخرًا بسفك دمائها.
وفي فيلم صلاح أبو سيف "بداية ونهاية"، 1960، المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، لم تُقتل "نفيسة" عندما عرف شقيقها أنها اضطرت للعمل في الدعارة من أجل الإنفاق على أسرتها، لكن لأنها تعلم أن حكم الموت قد صدر بالفعل، فقد قفزت في النيل لتنتحر بنفسها، وتخلص شقيقها الضابط من العار ومن أن يلوث يديه بمقتلها، استكمالًا لسلسلة من التضحيات في سبيل العائلة. ومن اللافت للنظر أن نفيسة عملت بالدعارة بعد أن أقامت علاقة رضائية مع سليمان البقال الذي ظنت أنه يحبها، وبعد أن فقدت عذريتها وانتهت علاقتها به دفعتها الظروف الاقتصادية للعمل في الدعارة، وهي النظرة التي تؤكد على الربط المجتمعي للعذرية بالشرف، فإذا فقدتها الفتاة يبدو هذا مبررًا كافيًا للعمل في الدعارة.
عفوًا أيها القانون
لا يتغاضى المجتمع وحده عن جرائم الشرف، لكن القانون أيضًا في بعض المجتمعات يكيل بمكيالين ويتخذ موقفًا متناقضًا من جرائم الشرف بحسب مرتكبيها، حيث تنص المادة 237 من قانون العقوبات المصري على أن الرجل إذا فاجأ زوجته متلبسة بالزنا فقتلها فإنه يعاقب بالحبس باعتبارها جنحة، بينما تعتبر الجريمة نفسها جناية إذا ما تبادل الزوجان الأدوار وقتلت المرأة زوجًا متلبسًا بالزنا. وهي المواد التي تتشابه مع مواد في القانون الأردني، والذي يجيز لأهل الضحية إسقاط الحق الشخصي في القصاص، وكذلك القانون الكويتي، والذي يجيز أن يُكتفى في عقاب القاتل في حال جرائم الشرف بالغرامة بدلًا من الحبس.
ناقشت المخرجة إيناس الدغيدي في فيلمها الأول "عفوًا أيها القانون"، 1985، يشهد بطل الفيلم "علي" في طفولته قتل أبيه لزوجته الخائنة، جيث يعاقب الأب بحكم الحبس لشهر واحد مع إيقاف التنفيذ، وتحدث المفارقة بعد مرور سنوات طويلة حين يخون"علي" زوجته، وحين تضبطه متلبسًا بالخيانة تطلق عليه النار ليصدر عليها حكمًا بالحبس 15 عاما وهو ما يسلط الضوء على التناقض بين الحالتين والأوضاع القانونية المجحفة بحق النساء.
بعيدًا عن السرب
وإذا كانت الأفلام السابقة تتراوح في مواقفها بين الرصد دون إطلاق أحكام، أو محاولات تسليط الضوء على التناقضات المجتمعية وتوجيه النقد لها، فقد تغير الوضع بمرور الوقت، ليختار بعض صناع السينما التحليق بعيدًا عن السرب، وتقديم نظرة غير تقليدية للموضوع، على الرغم من تعرضهم في بعض الأحيان لهجوم الكثير من المشاهدين غير المعتادين على تلك الرؤى.
من بين أبرز هذه المحاولات فيلم "أسرار البنات"، 2001، والذي قدم فيه المخرج مجدي أحمد علي نظرة غير تقليدية لبطلته المراهقة التي تورطت في علاقة جنسية سطحية مع جارها المقارب لها في العمر، ورغم عدم فقدانها لعذريتها فقد حملت بجنين، لم يدن الفيلم الفتاة بقدر ما أدان أسلوب التربية المتعنت، وغياب التواصل بين البطلة المراهقة ووالديها، وعنف المجتمع ممثلًا في طبيب النساء الذي اتخذ قرارًا بختان البطلة خلال ولادتها في تعد سافر على جسدها.
أما فيلم " أخضر يابس"، 2016، للمخرج محمد حماد فقد اختارت بطلته (إيمان) الفتاة المسالمة التي تتبع التقاليد والأعراف الاجتماعية الراكدة أن تفض عذريتها بإصبعها بعد أن أسفرت الفحوص الطبية عن إصابتها بانقطاع الطمث المبكر، وهو ما يعني انتهاء فرصتها في الزواج من منظور المجتمع. الفعل الذي يحمل طموحًا قد يبدو ثوريًا للوهلة الأولى، لكنه للأسف يؤكد على صورة نمطية تربط فرص المرأة في الزواج بقدرتها على الإنجاب، ورغم ذلك فهو من الأفلام القليلة التي تقدم نظرة مختلفة نوعًا ما لقضية العذرية، وتبتعد بها عن المفهوم التقليدي للشرف، لتضعها بين أصابع صاحبتها حرفيًا.
على مدار تاريخها الطويل حاولت بعض الأفلام كسر الدائرة المغلقة حول النساء، والكشف عن مدى قبح الجرائم المرتكبة في حقهن باسم الشرف، لكن مع الأسف كثيرًا ما وقعت أثناء ذلك في فخ التنميط لتكتفي بتكرار نمط الربط المجتمعي بين العذرية والشرف وإلقاء عبء مفهوم العذرية على كاهل المرأة وحدها ، وهو ما أدى إلى المزيد من تكريس هذه الصورة النمطية.