مقالات
المثليّة الجنسيّة عند النساء في الشرق الأوسط: تاريخها وتصويرها
2024-11-10د. سمر حبيب هي مؤلّفة كتاب بعنوان "المثليّة الجنسيّة عند النساء في الشرق الأوسط: تاريخها وتصويرها". د. حبيب تحمل الدكتوراه من جامعة سدني بأستراليا في موضوع الدراسات الاجتماعيّة، الجنسانيّة والأدبيّة. في آذار 2008 حلّت ضيفة على "أصوات"، وفي هذا اليوم ألقت د. حبيب محاضرتها بحضور ما يقارب الأربعون مشارك ومشاركة مثليات/ين وغير مثليين عرب.
فيما يلي محاضرة د. حبيب حول المثليّة الجنسيّة في الشرق الأوسط والمبنيّة بالأساس على كتابها وبحثها وجهدها الخاص في هذه القضيّة.
________________________________
"أجد نفسي مرحبا بي في هذا المكان من العالم الذي، لا أنكر، يثير عندي أحاسيس مضطربة ومتوترة. أشعر أن فلسطين هي جزء من حياتي، خيالي وسياﺳﺗﻲ وأعرف أيضاً أن بسببها تم وجودي في العالم. لقد ولدت لأم وأب من المهجرين الفلسطينيين في لبنان، كما لا أﻋﺗﻘﺪ أنه من غير نكبة 1948 كانا قد التقيا ولا أنني كنت قد ولدت حينها.
أضيف أنني عائدة إلى فلسطين وأنني عائدة إلى مكان لم أزره من قبل وهذه تجربة روحانية، وليست مصادفة أن يكون سبب عودتي الروحانية هذه ليست هي كنيسة القيامة (التي تعنيني كمسيحية)، وليس السبب هو جبل الهيكل (الذي يثير فضولي العلمي)، أو مسجد الأقصى الذي يجذبني إليه من خلال محبتي وإخلاصي للثقافة العربية الإسلامية. بل سبب عودتي إلى فلسطين هو وجود مجموعة مثليات فلسطينيات وبوسعهن لأول مرة بالتاريخ إنشاء مجموعة.
وجود مجموعة فلسطينيات مثليات هو بحد ذاته انجاز عظيم لأنه بوسعها أن تجمع المفكرات والسياسيات من كل أنحاء العالم، ولأن بوسعها إن تخلق مبدأ الحوار وتفرض على مجتمعها مداولة أفكار معاكسة للنمط الاجتماعي السائد لأنها تنظم نشاطات تثقيفية وتخلق ترابط بيين أفراد مجتمعها. ولكن الأهم فيما تقوم به جمعية أصوات بالنسبة لي هو تحضير، تجميع وخلق أدب وثقافة عربية أو على الأقل باللغة العربية وأرشيف يخص العربيات المثليات. هذا النوع من التنظيم، برأيي، هو الأكثر أهمية لأنه يساعدنا على تثقيف أنفسنا. إن وجود مجموعة مثليات فلسطينيات كـ"أصوات" ﻳﻧﺷﺄ ترابط تاريخي بين الأدب العربي القديم وهذا الأدب المعاصر وهما يتيحان الفرصة لبعض المثليات بالتعبير عن أنفسهن. مما يسرني كثيراً في مشروع النشر، هو أن هذه الكتابات تضع بين أيدي المثليين والمثليات نظريات وأفكار تكون سلاحاً يحررنا من مفاهيم المجتمع البطرياركي القامع لمعظم ما يتعلق بالجنس.
من خلال هذه المنشورات نستطيع أن نحرر أنفسنا من رهاب المثليّة التي تنعكس علينا باللاوعي من خلال مجتمعات ترفضنا على الإطلاق، وإن تثقيف النفس يزيد من الوعي حول المثليّة. أرى أنه إذا أردنا تغيير المجتمع الذي يرفضنا، علينا أولاً أن نبدأ بتغير أفكارنا السلبية. نحن كمثليات عربيات نعاني بأغلبنا من فترة اضطهاد طويلة وقاسية التي ﺃدﺕ إلى اﺧتباء وتزوير هويتنا النفسية طول الوقت الذي نحن بوسط أهلنا والأقرباء.
معظم المثليات العربيات اللواتي تعرفت عليهن يتقبلن الحياة المزدوجة: حياة الخزانة، حسب المصطلح الغربي، حول الأهل والأقرباء وحياة الحرية الجنسية بعيداً عنهم. ومعلوم أن هناك الكثير من المواقف والأحداث في العالم التي يكون فيها تعريف الإنسان عن جنسيته المثلية يؤدي إلى خطر على حياته/ا ومعظم الوقت هذا الخطر يستغنى عنه ولكنني لا أنكر إعجابي بالمقاومة التي تقف حتى بوجه هذا النوع من الخطر كما حصل بمدينة نيويورك في عام 1969 بعد اقتحام الشرطة لموقع ستون ﻭوﻝ1.
حدثني رجلُ في هذا المكان في عام 2004 عن الأحداث الذي شاهدها بنفسه وقال لي: ما أن بدأت المعركة مع الشرطة كانت هناك مثلية جدعة (Butch)2 ومن أتى لنجدتها بعد ذلك كن ملكات العروض (Dragqueens).
الخروج من الخزانة الذي أتكلم عنه يأتي بعد فترة قاسية من تثقيف النفس. هذا النوع من الخروج يصبح حركة سياسية فعّالة ويكون خروج عن قصد وبكامل الوعي. نقوم بهذا النوع من الخروج بهدف أن نكون الإثبات الحي لكون المثلية الجنسية شيء طبيعي وليست مرض أو حالة بحاجة إلى التصليح أو الإبادة، وأن تملكي القدرة المتواضعة التي تَفرِض على الآخرين كيفية التعامل معك. فإذا تصرفت كفريسة سوف يفترسونك وإذا تصرفت بالشعور بالذنب أو العار تعززين الفكرة أن هناك شيئاً يدعو للذنب والعار.
من الممكن أنني كنت محظوظة جداً بسبب أن مثليتي كانت ملحوظة عندي منذ أيام طفولتي وما كان باستطاعتي أن أتجاهلها ولهذا السبب أصبح خروجي، وبعدها ظهوري شيئاً لا مفر منه. أخبرت أخوتي وأخواتي أولاً وكنت في السادسة عشر من عمري. بنفس الفترة التي التقيت فيها بحبيبتي الأولى، نصحتني أختي بأن لا أخبر أهلي لكنني ما أصغيت لهذه النصيحة وأخبرت أمي في السنة ذاتها. أمي أيضاً نصحتني بإصرار شديد أن لا أخبر أبي لأن من الممكن أن الخبر يؤدي إلى سكتة قلبية. وكان خوفي على أبي يشابه خوف أمي عليه وما قلت لوالدي إلا بعد مرور ثلاث سنوات وحينها كنت في التاسعة عشر من عمري. في ذلك الوقت كنت في علاقة طويلة الزمن مع شابة استرالية. لا أزال أتذكر كيف بعد سنة ونصف من العيش مع صاحبتي قررت أن أخبر أبي. كان جالساً أماﻢ التلفزيون في صالوننا في البيت وأنا، بألمٍ شديد وبارتباك هائل، سمعت نفسي قائلة: "أنت تعرف أن لي صاحبة، نعم؟" التفت إلي أبي حينها وارﺘﻔﻌﺖ حواجبه وما نطق بشيء إلا "كما تريدين" واستمر بمشاهدة الأخبار على التلفزيون وما كان لأبي سكتة قلبية كما توقعنا بسبب صراحتي معه. أعتقد أنه تقبل الموضوع بشكل شبه ايجابي حتى أكثر من أمي، لأنه بعكسها لم يطلب مني أن أحاول "تصحيح" تصرفاتي. أعتقد أنه هنالك اتفاق بيني وبين أبي بخصوص جاذبية المرأة للإنسان إن كان هذا الإنسان رجلاً أو امرأة أو غيرهما.
خلال السنوات التي مضت بعد خروجي أمامهم تعززت بين أهلي وبين صديقاتي علاقات حميمة ومخلصة. أذكر أيضاً أنه مع هذا كله، أمي وأبي كانا يشعران بالإحراج أمام خالاتي وبعض الأقرباء المسيحيين في استراليا. وطلبا مني أن لا أقول لخالاتي ﻟﻛن في يوم من الأيام، وكنت في الخامسة والعشرين من العمر، أتت إحدى خالاتي لتزورنا في استراليا وفي ذلك الوقت كنت في علاقة شبه زوجية ولم أرضى بأن أنكر زوجتي ومكانتها عندي وبهذه الوسيلة (التصرف الطبيعي) اكتشفت خالتي أن سمر مثلية وأن زوجتها صبية طيبة ومحبوبة من قبل الجميع. عادت خالتي إلى لبنان ولكنها ما أخبرت أحداً عن التطور في حياتي. وبعد فترة من الزمن عادت هذه الخالة لتزورنا في استراليا ومعها خالتي الأخرى.
أخذتني الخالة التي تعلم عن مثليتي على جنب وقالت لي " سمر أنا أحبك كيف ما تكوني بس ما لازم تخبري خالتك التانية، هي بترفض الموضوع على الاطلاق وهم تقليديين كتير".
شاهدتُ الرعب في عينيها وكان هذا نفس الرعب الذي مكث عندي منذ عشر سنوات وكان أيضاً الرعب نفسه بعيني أمي وأختي وحتى أبي أحياناً. ولكن عندما أتت هذه الخالة بإشعارها الخاص كنت قد أصبحت خبيرة في هذا المجال وما عدت أقبل بهذا النوع من الإذلال والاختباء وما صدقت للحظة أن خالتي الأخرى سوف تتبرأ مني. ولهذا السبب عندما التقت خالتي لأول مرة بزوجتي قدمتها لها كـ"زوجي" وضحكت خالتي وما اعترضت على الإطلاق.
أشعر أن ظهوري كمثلية وخروجي الشفهي واليومي هو عمل سياسي وأنه فرض واجب على امرأة مثلي: امرأة لا تخاف من ما ممكن أن تخسره من خلال الخروج والظهور وامرأة لا تخاف من مواجهة الرافضين والعنيفين والمتدينين وأفكارهم المُضحكة. ولكل هذه الأسباب يوجب علي الخروج والظهور. وانا أعلم أنه سوف يأتي وقت حين تردد خالتي الاسطوانة التي نعرفها جيداً. سوف تقول لي "سمر أنا أحبك كيف ما كنتِ بس ما تقولي لزوجي، سوف يحتقرك حينها." ولكنني أعرف زوجها وأننا سوف نكون دائماً أصدقاء وأعتقد أنه على الأقل يشك بهويتي الجنسية المثلية بعدما تمّ حوار بيني وبينه حيث أعلنت أن ليس من الممكن أن أتزوج رجل أو أنجب أطفال.
لا أريدكن أن تعتقدن أن إخباركن عن هذه التجارب الايجابية يعني أنني أنكر وجود رهاب مثليّة قاتل أو نوع رهاب مثليّة الذي لا نستطيع أن نتفاهم معه بأي وسيلة. ولكنني أريدكن أن تعلمن أن هذه التجارب الايجابية وهذه الأنواع من الحركات السياسية والشخصية البسيطة تحصل أيضاً في العالم. وأنني لست فريدة كمثلية عربية في هذه التجربة. أعتقد أن هناك العديد منّا اللواتي تستطعن أن تخرجن من خزانة المنزل ولكنهن لا يعالجن رهاب المثليّة (الهوموفوبيا) التي تمكث عندهن مثل أمي وأختي وأبي وخالتي، كلهم كانوا يعتقدون أن الاختباء الفرعي هو نوع فعال وما كانوا للحظة واحدة يلاحظون أن هذا الحل يمس الكيان أو أن هذه الإهانة هي ثمن غير معقول لما نحصل عليه من السترة الكاذبة بالمقابل.
كنت على استعداد أن أخسر الأصحاب وأعضاء من عائلتي ولكن لحسن الحظ ما حصل هذا الشيء. حتى أقربائي المسيحيين المتحفظين حتى هم، الذين من أول وعيهم على الحياة يقال لهم أن التناسل هو شيء مقدس وأن العائلة الذرية التي ربها ورأسها هو الأب، والتي تأتي وحدها مع دعم من الله تعالى (ربنا وأبانا الكبير)، حتى هم يجدون أنفسهم مجبرين على تقبل جنسيتي وصديقاتي وتصرفاتي "الذكورية".
أعتقد أن هناك علاقة بين تقبل اﺰدواجية الحياة وما تشعر الإنسانة من توتر تجاه مثليتها الجنسية. من الممكن أن الخطوة الطبيعية القادمة لنا أن تكون من "أصوات" إلى "أصوات ووجوه". هناك قوة هائلة بقولنا وبكل بساطة "نعم أنا مثلية، وما المشكلة؟ هل أنت أحمق؟" هذا النوع من فرض الذات يخل بموقف المجتمعات العربية التي لا تشك للحظة واحدة أن المثلية الجنسية هي شيء طبيعي. وأن المشكلة هي تخلف ثقافتنا الجنسية في الوقت الحاضر.
أعرف أن هناك فائدة لنا في الاختباء، الاختباء يفيد إنسانة لا تريد أن تخسر حرية التصرف والحركة الغير مكشوفة، فائدة أيضاً لإنسانة تريد أن تتجنب مواجهة أهلها وأصحابها لأنها لا تريد أن تستغني عنهم ولا تريد خسارتهم. وأعرف أيضاً أن بعض اﻠﻣثليات يعتقدﻦ أن الخروج هي إستراتيجية غربية وليس علينا أن نتبعها لنكون أحرار لأن مجتمعاتنا تختلف عن الغرب. هذه الفكرة شائعة عند المثليات العربيات ولكنني لا أتفق مع سياسة الازدواج هذه، خاصةً لأن الأفكار التي تداولها الغرب بالنسبة للمثلية منذ عشرين أو أربعين سنة ما كانت تختلف عن أفكار العرب الحالية. والطريقة التي أدت لتحرير مثليي ومثليات الغرب كانت وحدها طريقة الإعلان عن النفس، وطريقة الخروج الايجابي الذي رفض التوشم بالعار والإحساس بالذنب وضم له بكل محبة وفخر الجنسية المثلية وغيرها من الاختلافات. وهذا الخروج الايجابي عزز أهمية الحب والاكتفاء الجنسي عند الإنسان.
المشروع السياسي عند مثليو ومثليات الغرب تلقى كثيراً من الكراهية من جهات دينية ومن الشرطة ﻭوكالات القضاء والحكام. وبدأ مشروعهم الكفاحي هذا قبل إزالة قوانين تلك البلاد التي كانت تعاقب المثلية الجنسية كأنها جريمة. لا بل تغيرت هذه القوانين القامعة بسبب جرأة البعض وظهورهم وكفاحهم. مثليو ومثليات القرن الماضي تظاهروا وحاربوا الشرطة وقضوا وقت في السجون واضطهدوا ولكنهم أيضاً أسقطوا عن أنفسهم الرعب من المعاملة السيئة ومن السجن، مثل انتفاضة الفلسطينيون في الثمانينات، إذ يأتي وقت ﻧرفض فيه الاستعمار الجسدي والروحاني.
مطالبتنا بحريتنا وحقوقنا لن تكون دائماً مسالمة ونظيفة، من الممكن أن تكون هناك نقطة في الزمن والتي ممكن أن نضطر أن نحارب فيها وأن نقف من اجل حقوقنا ونكون مشاغبين ونتكلم بأصواتٍ مرتفعة عن أشياء ساخنة وأن نكون قابلين على خسارة أجزاء من حياتنا ﺍﻠﺗﻲ ﺗﻨﻤﻭ بخزانتنا. ولا أريد أن أصعب الأمر على أحد لأنني لا أقصد كل فلسطينية أو عربية مثلية، بهذا الكلام أقصدها هي التي تفكر بهذا الأسلوب والتي تستطيع وتريد أن تأثر وتحدث تغيير في المجتمعات العربية وتكون هي على طريقة تصرفاتها المكشوفة كل التغيير ﺍﻠﻤرغوب.
وبالنسبة لنا العربيات المثليات اللواتي يعشن في الغرب، أعتقد أننا بالأخص نضيف إلى مشكلة رهاب المثليّة، نعيش في بلاد تحمينا وتحمي حقوقنا ولكن معظمنا لا نزال نعيش حياة الخزانة المنزلية. اسألي نفسك إذا كنت تستطيعين الخروج الكامل وإذا كان بوسعك أن تتحملي الخسارات التي سوف تصاحب هذا القرار. اسألي نفسك إذا كنت قادرة على خسارة رسن الاختباء، وإذا كنت تستطيعين فعل ذلك فافعلي. تقبلي بأن تكون مشاعرك رهينةُ للآخرين، لا تقبلي "لو عرفت أمك هذا سوف يقتلها". إن كنت تعتقدين أنها سوف تموت من هذا الشيء دعيها تموت. ابتعدي عن أي شيء يمس كيانك وابتعدي عن أي شيء يجعلك تشكين بحقك أن تكوني هكذا، وبحقك أن تُعاملي كانسانة. ابتعدي عن كل شيء يجعلك تشكين بجمالك كما أنتِ وجمال خروجك عن النمط الاجتماعي السائد واشكري ربك لهذا الاختلاف، ابحثي عن الأخريات، ثقفي نفسك وحققي لنفسك استقلال مادي. ضمي إليك شهواتك الجنسية وحرري نفسك من المفهوم الديني الذي يعلمنا أن الجنس هو شيء آثم وأن هدفه الأعلى هو التناسل المقدس.
وهنا ينتهي تعليقي البسيط على حالة المثليات العربيات بشكل عام، وتعليقي على أهمية الخروج لقبولنا لذاتنا أولاً وقبل أن نطلب من المجتمع، إننا نصر لا بل نفرض وجودنا على المجتمع من خلال الحركة السياسية الأخرى وهي الظهور، وليس من الممكن لكل مثلية أن تكون ظاهرة ولكن عادةً ما يظهر من المثليين والمثليات هم المتذكراﺖ والمتأنثين لأن المجتمع ينصفهم باختلاف عن قالب الحياة "الطبيعي" المجسد بذكر رجولي فاعل، وامرأة متقوقعة أنثوية، مفعول بها.
والآن دعنا ننتقل إلى معاملة الديانات الإبراهيمية للمثلية. ولنبدأ بآخر هذه الديانات:
العدﻳﺪ من المسلمين يؤمنون أن الإسلام والمثلية لا يصلحان معًا، وإن اصطلحا يكون هذا مبني على خطأ كبير وتجني على الدين. ومن الممكن أن نرى أن أي محاولة لإنتاج إسلاميات قابلة للمثلية هي محاولة يائسة وحتى مستحيلة.
ولكن هذا الاعتقاد سببه عدم المحاولة الجدية، ويبقى الموضوع ليتداوله العديد من المسلمين والمسلمات المثليين والمثليات المؤمنين الذين يهتمون بهذا الموضوع بشكل خاص ولأسباب شخصية.
أود أن أشارككن أفكاري حول إسلامية قابلة للعلاقة المثلية.
وبهذا السياق يلزمني أولاً أن احدد الكتابات الإسلامية المقدسة، إي الأحاديث الصحيحة والقران الكريم، والتي لا يتعاملان بشكل واضح مع المثلية كما يتبين لنا من قبل بلاد كالسعودية أو إيران أو نيجيريا التي تتبع قوانين الشريعة الإسلامية، حيث المثلية تتلقى معاقبة الإعدام.
هذه الشريعة التي تحكم على المثلية كأنها جريمة تعود إلى حديث عن على بن أبي طالب. إذ بعد موت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصبح علي بن أبي طالب في مكانة الحاﻜﻡ ﻠﻓﺗﺮﺓ ﻗﺼﻳﺮﺓ. وفي يومٍ من الأيام ألقي القبض على شابين يمارسان الجنس المثلي، وتبين للجميع حينها أن لا أحد من صحابة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يستطيع أن يذكر حديثاً له عن كيف تُعاقب المثلية أو إذ هي تُعاقب على الإطلاق. وحينها أمر ابن أبي طالب بإعدام الشابين من خلال رميهما من فوق سطح ورميهما بالحجارة. وهذا سيداتي وسادتي كيف نصل إلى معاقبة المثلية في الشريعة الإسلامية المعاصرة.
من بعد هذا الحدث، أول ﻋﻗﺍب رسمي عند الإسلام، لاحظ الفقهاء الأوائل أن القرآن الكريم لا يتكلم بسلبية واﺿحة أو صارمة عن المثلية وبدأ مشروع رفض ومعاقبة المثلية عند بعض الفقهاء كالزهري، أبو هريرة، السيوطي، المشتولي، واﻟﻤتقي الهندي والذهبي وغيرهم.
هؤلاء الفقهاء بحثوا ووجدوا بعض الأحاديث المقطوعة التي إدعت بأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان قد قال أن السُحاق هو زنا النساء بينهن وأنه قال أن يقتل الفاعل والمفعول به بالعمل اللواطي بين الرجال.
في القرون الإسلامية الأولى ما كان هناك اتفاق عالمي بين الفقهاء ﻭﺑﻌﺿﻬﻢ تقبلوا المثلية. ﺣﺳﻦ البصري مثلاً، أو ابن الحزم اللذان كانا يتعاملان مع رجال مثليين بشكل صريح وايجابي واللذان كتبا عن المثلية بشكل طبيعي ومسالم أو قاضي المسلمين يحيى بن أكثم في بغداد على عهد الخليفة المأمون، وبن أكثم كان مشهوراً لحبه للواط وهو لم يكن يعاقب العلاقات والأفعال المثلية بل عاقب الزنا بشكل صارم.
وهناك أيضاً ما شاهده ابن حزم في القرن الحادي عشر ميلادي وهناك ما كتب عن بعض القبائل الإسلامية التي كانت تسمح بالمثلية وبعض القبائل الأخرى التي كانت تحدها وتعاقبها كالزنا. وهو ابن حزم نفسه الذي يثير انطباعاً لقصة قوم لوط في القران الكريم. وابن حزم يصر أن هذه القصة ليست قصدها عقاب المثلية بل عقاب الكفار.
بالواقع لوط يعاﺗب قومه لأنهم قد هجروا نسائهم لحب الرجال وليس لحبهم للرجال فقط. وأنا أيضاً لاحظت أن هناك ترابط بين أسلوب سرد قصة قوم لوط وقصة قوم ﺛمود في الكتاب الكريم وان قوم ﺛمود أبادهم الله لكفرهم وعدم قبولهم للرسول صالح كما كان عدم قبول لوط كرسول من قبل قومه.
ولكن فقهاء اليوم يصرون على استنتاج عدوانية للمثليّة من قصة قوم لوط القرآنية وليس فقط عدوانية لأفراد القوم الذين يمارسون الجنس المثلي بل عدوانية شاملة لكل المثليين في ﻛﻝ زمان ومكان وفي الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن لوحدها ﺍﻟﻗﺻﺔ لا تتحمل هذا الإجراء.
ولكن تبقى هناك أحاديث صحيحة توجد في صحيح المسلم وصحيح البخاري وهي تقول في فصل اللباس عند البخاري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن الرجال المتشبهين بالنساء والنساء المتشبهات بالرجال.
وهناك حديث آخر يتكلم عن مخنث في منزل أم سلمة (زوجة الرسول) وفي الحديث يمنعه الرسول الدخول على الحرم كما كان يُسمح له سابقاً وكان هذا بسبب وصفه الجنسي لإحدى النساء أماﻢ الرسول وواحد من صحابته. ومنعه الرسول من الدخول على النساء ليس بسبب مثليّته بل بسبب غيرته. ونشاهد هنا أن محمد (صلى الله عليه وسلم) ما كان يعاقب المخنثين، وأعتقد أن كلمة المخنث تعني الرجل المثلي المؤنث. وفي ذلك الوقت كلمة "المخنث" كانت أيضاً تعني الرجل المخصي أو حتى شخص بلا جنس محدد أي Intersex. ولكن بعض المترجمين في عصرنا الحالي يرون أن المقصود بالمخنث في هذا الحديث هو الرجل المثلي المؤنث وأنا لا أعترض على إمكانية هذه الكلمة أن تكون بهذا المعنى.
الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعترض على وجود هذا المخنث أمامه إلا بسبب وصفه اﻟﺠﻧﺳﻲ لامرأة وليس بسبب تخنيثه أو جنسيته. ولهذا السبب نستطيع أن نتفهم بوعي أكثر لماذا لم يكن هناك عقاب رسمي للمثليين إلا بعد موت الرسول. وإن كان الرسول قد لعن النساء اللواتي ترتدين لباس الرجال والرجال اللذين يفعلون كذلك بثياب النساء، هذا الكلام لا يعني أنه ضد المثلية الجنسية.
وان سوف يكون هناك فلسفات إسلامية قابلة للمثلية سوف لا تزال ﺗﻓﺭﺽ الزواج والإعلان عن العلاقة من خلال هذا الزواج لأن من الواضح أن الإسلام لا يسمح بأي علاقة جنسية خارج إطار الزواج وسوف تبقى الزنا من أكبر الجرائم الدينية ولو من الممكن أن يترك المجتمع عقاب الفاحشة لله ولا يفرض نفسه حاكماً على كل ما يفعله الإنسان من تصرفات فردية ومتحررة.
ولكن نهجاً إسلامية قابلة للمثلية لا بد أن تزال تفرض على المؤمنين المثليين أدوار ذكورية و أنثوية بالمعنى التقليدي، لأن المجتمعات الإسلامية لا تزال تتطلب هذه الأدوار – من ست المنزل إلى رجل البيت- لتنظيم الحياة الزوجية والمنزلية. ولكن أعتقد أنه حتى مع هذا التقنين لا تزال هذه الإسلامية القابلة للمثلية من خلال مؤسسة الزواج شيء مرغوب به ومكان جديد لبداية الطريق الطويلة نحو تحرير المثلية الجنسية الموجودة في ضمن الديانات الإبراهيمية المتحفظة.
أرجو أن أقول هنا أنني أتكلم من موقف غير متدين وموقف يغذي فضولي العلمي والثقافي ولهذا السبب لا أتكلم كمسلمة.
وأما الدين اليهودي الذي زود المسيحية والإسلام بقصة قوم لوط التي تستعمل كسلاح يعين رهاب المثلية. فيقول البعض أن في هذه القصة في التوراة كان التشديد يقع على نقطة معاقبة قوم لوط بسبب محاولتهم لاغتصاب أحد زوار لوط والذي كان ملاك ينزل من عند الله تعالى. ويقول جون بوسويل3 (John Boswell) أنه أصلاً، القصد من هذه القصة كان تهذيب القبائل باتجاه معاملة إنسانية مع الأغراب ومارّي الطريق. وأما كتاب اللاويين (سفر اللاويين في التوراة) الذي يخص حياة الرهبان اليهود من القوم بنفس الاسم حدد كثيراً من الممنوعات عليهم: منعهم من أكل المحار (نوع من الحيوانات الصدفيّة المائيّة) مثلاً ومنعهم من ارتداء ملابس فيها أكثر من نوع واحد من القماش ولكن لا أحد ينظر إلى تحريم أكل المحار أو ارتداء البذلة المخلوطة ويتبع هذه التحريمات اليوم بل الكل يصرون على ذكر تحريم المثلية بين الرجال ويرون أن هذا تحريم على الجميع الرجال والنساء أيضاً وليس تحريم كان يخص الكُهان فقط.
إن حقيقةً كلمة "سدومايت" أو عبارة قوم لوط ما كان معناها يتعلق بالمثلية بأي تحديد أو تصميم إلى ما بعد مرور العديد من القرون وبعد اجتهاد رجال الدين في مشروع تحريم العلاقات اﻟﻣثلية الجنسية.
مجتمعاتنا تفرض علينا الخيار بين المثلية والتديّن ولكن لا أعتقد أن هناك اختلاف أساسي بين المثلية والدين إلا إذا كانت هذه المثلية تكون أيضاً متحررة من قيود الدين على الاستمتاع بالجنس.
هنالك اعتقادات خاطئة أخرى متداولة في مجتمعاتنا العربية ومن ضمن هذه الاعتقادات أن المثلية هي شيء مستورد من الغرب، ولكن الحقيقة أن المثلية الجنسية توجد في كل أنحاء العالم وفي معظم المجتمعات عبر التاريخ. وكان المفهوم عند الغربيين في أواخر القرن التاسع عشر أن بلاد العرب الصحراوية نابعة بهذه الممارسات والعلاقات. وكان الغربيون يعتقدون حينها أن المثلية أصلها عندنا وأنهم استوردوها منّا.
وأحب الآن أن أريكن بعض الكتابات العربية القديمة التي استكشفتها من خلال أبحاثي في هذا الموضوع الشيق. أود أن أعرفكن على سحاقيات الحضارة العربية كما قدمها بعض رجال المجوﻥ والأدب القديم، ولكي نفعل ذلك علينا أن نتوجه أولاً إلى عهد الخليفة المأمون وتبدأ حكايتنا عند الحسن اليمني المتوفى عام 850 ميلادية. وفي كتاب رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب يقول اليمني التالي:
"السحاق قديم في النساء، ولهن به لذة يهون عندهن الافتضاح به والاشتهار به. قال صلى الله عليه وسلم ((سحاق النساء بينهن زنا)) وأول من سن السحق ابنة الحسن اليمني، وكانت وفدت على النعمان بن المنذر فأنزلها عند امرأته هند، فعشقتها وشغفت بها، وكانت هند أحسن أهل زمانها، وهي التي تسمى المتجردة لحسن متجردتها، فلم تزل ابنه الحسن تخدعها وتزين لها السحق وتقول: في اجتماع المرأتين لذة لم تكن بين المرأة والرجل، وأمنا من الفضيحة، وإدراكا لتمام الشهوة من غير اتهام ولا محاذرة لعاقبة، حتى اجتمعنا، فوجدت من الالتذاذ بها فوق ما قالته، وبلغ من شغف كل واحدة بالأخرى ما لم يكن بين امرأتين قط قبلهن، فلما ماتت ابنة الحسن اعتكفت هند على قبرها حتى ضرب المثل وفي ذلك قال الفرزدق:
وفيت بعهد منك كان تكرما كما لابنة الحسن اليماني وفت هند ( رشد اللبيب ص123-4)
ويعتقد اليمني كما نرى أن هند شغفت ببنت الحسن وان كانت علاقتها قوية ومخلصة وملتزمة وعلاقة جنسية، جسدية بشكل واضح. زوجة المنذر الملك البيزنطي (أي مسيحي) عاشت في القرن الخامس ميلادي، يعني ان هذه القصة حصلت قبل ولادة الإسلام عند العرب. ويضيف اليمني إلى ذلك أن:
"ثم من بعدهما رغوه ونجدة، تعاشقتا واشتهر أمرهما بالسحاق حتى عيّر أخو رغوم بذلك من أخته، فرصد لهما حتى وافهما يوما وهما مضطجعتان، فقتل نجدة وارتحل باخته، فجعلت رغوم تحرض قوم نجدة على قتل أخيها، وشبّت الحرب بينهما. وفي هذا دليل على عظم ما يجدنه من اللذة في السحق وترجيحه عندهن على اللذة من الرجال" (رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب، ص 124)
وتبين هذه القصة أن العلاقة المثلية هذه كانت مرفوضة عند قوم ﺮﻏﻮﻢ وأخيها ولكن ما كانت هذه العلاقة مرفوضة من قبل قوم نجدة لأن عشيقتها استنجدت بهم حيث شبت حرب بين القومين.
ويضيف اليمني إلى ذلك أن السحاقات على ضربين: احدهما من تحب السحق ولا تكره الاير ومن الممكن استخراج هذه من السحق على طريق الرجل "الماهر الموسر من الباه..." ولكن يضيف يمني أن الضرب الثاني من السحاقات هي: "المتذكرة الخلق ويظهر ذلك فيها من صغرها." ( رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب، ص 125) وتلك السحاقات يعتقد اليمني لا يمكن إعادتها إلى الصراط المستقيم.
كما تعرفن تحليل اليمني هذا لا يُريني حقيقة المثليات العربيات بل وأنه يُرينا جهله في الموضوع وهذا النوع من الجهل يشاركه به العديد من الباحثون الغربيون في متوسط القرن العشرين حيث كان الباحثون في هذا المجال غيراً عن الفريد كنسي يعتقدون أن كل المثليات هم شبه رجال أو رجال بلا الأعضاء الجنسية الأساسية وأن الرجال المثليين هم كالنساء ولا تزال المجتمعات العربية على هذا الاعتقاد لحد اليوم. وإضافةً إلى ذلك أن المثليات الفائقات بالأنثوية لسن ﻳﻌﺗﺒﺮﻦ مثليات حقيقيات و أﻥ يمكن تحويلهن لغيريات من خلال ممارسة جنسية مع الرجل الماهر بالباه!
ويجب علينا أن نقرأ هذه الكتابات القديمة بحراصة وان لا ننسى أنها كتابات تحاول أن تضعنا في قواليب الجنسية الغيرية السائدة التي تفرض علينا أن الرجل يحصل على رجولته من خلال تذكره وان المرأة لا تستطيع ان تكون امرأة من غير الأنوثة وان كان هناك شاب مخنث متكسرا في مشيته يفرض مجتمعنا علينا أن نراه كامرأة ولكن لحسن الحظ مفاهيم نظرية تحرر الجنس Queer theory)) التي بدأت في أواخر القرن الماضي علمتنا أن لا يوجد هناك سبب بان نربط جنسية الجسد بالعقل وعكسها.
وأصبح بوسعي أن أكون امرأة فائقة الأنوثة وان أكون مثلية وحصرية أيضاً ومن الممكن أن أكون مثلية بتصرفاتي وردائي ولا يعني هذا أنني مسترجلة أو أن يكون بيني وبين الرجولة أي علاقة، خاصةً علاقة الصورة بالشيء الأصل. ومن الممكن أيضاً أن أكون رجلاً بلا قضيب أو أن أكون امرأة متجسدة بجسد رجل. وحتى كيف ما كان تكويني الجسدي أستطيع أن أرفض أن أكون امرأة أو رجل وأن أﺷﻌﺭ حقاً أن هويتي الجنسية هي شيء غير محدد أو على الأقل غير عن مفهوم المجتمع للرجل والمرأة.
نظرية تحرر الجنس تُساعدنا على تحليل هذه النصوص البطرياركية التي ترى أن كل ما يتعلق بالجنس يبدأ وينتهي عند الرجل، ولكن يعترف اليمني وبمضضٍ شديد أن هناك لذة جنسية لدى تلك السحاقيات أن لا يمكن لهن أن يجدن نفس اللذة مع الرجال، وهذا اعتراف مهم وهو اعتراف بوجود المثلية عند النساء منذ ذلك الوقت وحتى من قبل ذلك.
يدل هذا الاعتراف على وجود المثليات العربيات عبر التاريخ وثقافات وحضارات مختلفة- ومن أظرف ما نقله اليمني من كتابات سحاقية يوجد في أبيات الشعر التي تتبع:
"وصورت مُتَقية صورة غلام قد رفع رجلي امرأة وهو ينيكها: وأرسلت به الى سحاقة، وكتبت عند الصورة تقول:
هذا وحقك حالي ما للسحاق وما لي
يرمي القلوب بلحظ كإصابات النبالِ
ذو طرة كظلام وغرة كهلالي
وقامة كقضيب تزهو بحسن اعتدال
فذاك انسى رسولي يفديه روحي ومالي
عسى يشقيك هذا فلا يغنيني فعالي
فصورت السحاقية صورة جارية تساحقها وأرسلتها الى متقية وكتبت عندها:
لكن كسي يجود يزهو بخد وخال
كمثل نقطة مسك تلوح فوق هلال
تريك ثغرا نقيا ومبسما ملآلي
فيه رضاب شهي عذب المذاق حالي
وحسن جيد بهي كمثل جيد الغزال
أقول لما بدا لي من حسنها يا ما بدا لي
سبحتن من صاغ الجمال من صلصال
فصار خلقا سوياً مكوناً من جمال
أتيت أرشف فيها وصادها عند دال
ان كان هذا حرام فذاك غير حلال
( رشد اللبيب إلى معاشرة الحبيب، ص 131-2)
حقاً هذه القصيدة الأخيرة تمثل لي من أهم وأجمل المكتوبات القديمة في هذا الموضوع لأننا نسمع صوت سحاقية عربية من خلال القرون ولا نزال نستطيع أن نفهم أحاسيسها ومعاناتها معاً: من وصف عملية جنسية شفهية ووصف الظمأ للاكتفاء الجسدي عند إنسانة من خلال إنسانة أخرى، إلى ما تقوله الشاعرة بالنسبة لتحريم روي العطش الجنسي وقولها السياسي والواضح أن هذا التحريم بنفسه حرام. وألاحظ أن الشاعرة تستعمل رموز دينية كنقطة المسك التي تلوح فوق الهلال، وأعرف حينها أنني أقرأ لشاعرة عربية مثقفة وقوية الشخصية ومثلية وحصرية، ومن الممكن أن تكون مسلمة التربية والثقافة. هذه المرأة المجهولة التي خاطبت المتقية الغيرية ترينا أن المثلية ليست على اختلاف مع العروبة لا بل أن هناك تضامن أدبي وتاريخي بين هاتين الهويتين ومع أن اليمني كان يرى أن المثلية هي شيء آثم ومحرم بالحديث ﺍﻠﻣﻗطﻭﻉ " السحاق زنا النساء بينهن" كان لا يزال يتقبل وجودهن ولا نرى في كلامه تحريض على إبادة المثليات أو عقابهن.
أما أحمد بن يوسف التيفاشي (عالم عربي مسلم تونسي) المتوفى عام 1253 ميلادية، فهو كان يعامل الموضوع بشكل ايجابي ومدهش وهو الوحيد من قال أن بعض الحكماء كانوا يرون السحاق كرغبة طبيعية عند النساء.
ولكن سوف أعود إلى التيفاشي بعد أن نلتقي بمثلية عربية أخرى من القرن التاسع وهذه المرأة كان اسمها بذل وكانت بذل مطربة وجارية على عهد المأمون، وما نعرف عن هذه المملوكة المدنية يأتي في كتاب أبو فرﺝ الأصفهاني المشهور: كتاب الأغاني. ويعلمنا الأصفهاني أن بذل كانت هي مؤلفة لأكثر من 1200 أغنية وكانت تستطيع أن تغني أكثر من 30000 لحناً. ويقول الأصفهاني أيضاً أن بذل كانت محبوبة من قبل العديد من المعجبين وانه تقدم لها أكثر من رجل واحد، ولكنها قضت حياتها بلا زواج.
في مجلس المأمون ذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوما قاعدا يشرب وبيده قدح إذ غنت بذل:
ألا لا أرى شيئاً ألذ من الوعد
فجعلته:
ألا لا أرى شيئاً ألذ من السحق
فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها، وقال: بلى يا بذل، النيك ألذ من السحق، فتشورت وخافت غضبه، فأخذ قدحه، ثم قال: أتمي صوتك وزيدي فيه:
ومن غفلة الواشي إذا ما أتيتها ومن زورتي أبياتها خاليا وحدي
ومن صيحة في الملتقى ثم سكته وكلتاهما عندي ألذ من الخلد
نسبة هذا الصوت:
ألا لا أرى شيئاً ألذ من الوعد ومن أملي فيه وإن كان لا يجدي
(نزهة الألباب ص242)
وفي يومٍ من الأيام كانت بذل تثير فضولنا في هذا العمل. ما معنى جرأتها هذه التي تثيرها على فتح موضوع السحاق أمام المأمون؟ وما هي علاقتها بالسحاق؟ هل كان لديها علاقة مستمرة مع إنسانة مجهولة؟ هل كانت هي من الساحقات الظاهرات المتذكرات، أو هل هي من اللواتي يصعب علينا أن نعثر عليهن بسبب أنوثتهن وتجاهل الأدباء وجودهن؟
أنا أعتقد أن بذل كانت مثليّة، ليس لأنني أريدها هكذا وليس لأنني أفرض قيم ومفاهيم عصرنا هذا على القرون الغابرة، بل لأن الأصفهاني يشير إليها بأنها "ظريفة"، والظرف كانت كلمة متداولة في بعض المدن العربية القديمة بين السحاقيات العربيات لتعني "السحاق".
ويضيف التفاشي في القرن الثالث عشر "إن ﻗﻴﻝ أن فلانة "ظريفة" عُلِمَ بينهن أنها سحاقية". كما تقول المثليات اﻠﻐربيات كلمة "gay"- المثليات العربيات المدنيات كان لديهن كلمة "ظريفة" التي بصدفة حلوة تُشابه معنى "gay" الأصلي بأن الإنسانة مبسوطة.
وسأنتقل الآن إلى فصل من كتاب التيفاشي "نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب"، هناك فصل يتعلق بالسحاقيات وأنا أظن أن هذا الفصل يُشكِل توثيق للمثلية عند النساء العربيات بشكل ايجابي. وبالإضافة إلى ذكره لإمكانية المثلية أن تكون شهوة طبيعية هو أيضاً لا يذكر كتاباً أو أحاديث قامعة أو استياءً أخلاقياً من الموضوع. ويُعطينا التيفاشي نص منقول من سحاقية اسمها وردة وما هي المرأة العربية المثلية الأخرى التي تكلمت عن نفسها من خلال سطور قليلة. وتقول وردة:
"نحن معاشر السحاقات تجمع الواحد منا مع الناعمة البيضاء، الغنجة، الغضّة، البضّة، التي كأنها قضيب الخيزران، بثغر كالأقحوان، وذوائب كالأرنباني، وخد كشقائق النعمان وتفاح لبنان، وثدي كالرمان، وبطن باربعة أعكان، وكس كامن فيه النيران، بشفرين أغلظ من شفتي بقرة بني اسرائيل، وحدية كأنها سنام ناقة ثمود، ووطأ كأنها ألية كبش اسماعيل، في لون العاج، ولين الديباج، محلوق مخلق، مضمّخ بالمسك والزعفران، كأنه كسرى أنو شروان وسط الايوان، بالاصداغ المزرفنه، والنحور المزيّنة بالدّر والياقوت والغلائل اليمنيّة والمعاجر المصريّة. فنخلو بهن بمعاتبات شجيّة ونغمة عدنيّة، وجفون ساحرة، سالبة لتامور القلب، ثم اذا تطابقنا بالصدور على الصدور، وانضمت النحور على النحور، وتراكبت الشفران على الشفرين، واختلج كل منهما على اللآخر، حتى اذا تعالت الانفاس، وتشاغلت الحواس، وارتفعت الحرارة عن الرأس وبطل عند ذلك كل قياس، نظرت إلى الحركات الحسيّة، والضمائر الوهميّة، والصنائع الغريزيّة، والأخلاق العشقيّة، بين مص وقرص، ورهز ونهز، وشهيق وخفيق، وشخير وخرير، ونخير لو سمعه أهل ملطيّة لصاحوا: النقيرا مع رفع ووضع، وغمز ولمز، وضم وشم والتزام، وقٌبل وطيّب عمل، وانقلاب حرف مغير قلق."
كل ذلك بأدب ملوكي وأنين زاكي، حتى اذا حان الفراغ، وخفّ المصاغ، شممت كنسيم الأنوار، في آذار، وروائح الراح في حانوت خمار، ونظرت إلى اهتزاز خصن البان من الامطار، فلو نظر الفلاسفة إلى ما نحن فيه لحاروا، وأرباب اللهو والطرب لطاروا.
(نزهة الألباب، ص 242-3)
الست وردة لا تريدني أن أعلق على كلامها، تتكلم بوضوح وإثارة جنسية ساطعة، ولكنها أيضاً مثقفة لأنها تقتبس من القصص القرآنية: من ناقة ﺛمود إلى آلية كبش إسماعيل أو بقرة بني إسرائيل. وتتكلم بالعلمانية أيضاً بذكر كسرى أنو شروان (الملك الفارسي) واﻠﻗﺒﺍئل اليمنية وأهل الملطية أيضاً.
هذه ليست مجرد قصيدة ساخنة سببها الإثارة فقط بل هي أيضاً شعر عربي عميق بمعناه وتقنيته الأدبية. مع أنه هائل بصراحته وتصويره الجنسي بقلم امرأة عربية مثليّة (سحاقية) من القرن الثالث عشر في بلاد المغرب أو مصر أو سوريا.
أود أن أثير انتباهكن لقصتين أخرتين في هذا الباب في كتاب التيفاشي، أود أن أعرفكن على قصائد كتبت لأجل مدح المثلية عند النساء:
شربت النبيذ لحب الغزل وملت إلى السحق خوف الحبل
فضاجعت في خلو حبتي وفقت الرجال بطيب العمل
إذا كان سحقي مقنعاًَ غنيت به ورفضت الرجل
(نزهة الألباب، ص 244)
تقول الشاعرة أن حين فاقت الرجل بطيب العمل الجنسي مع حبيبتها وجدت قناعة واكتفاء بهذه العلاقة ولهذا السبب هي ترفض الرجل. هناك بساطة في التعبير ولكن نشعر باقتراب من تجربة الشاعرة هذه التي بدأت علاقة مع امرأة واكتشفت ميولها.
وهناك قصيدة أخرى على هذا النمط:
قنعت بحبتي ورفضتُ أيراً عواقبه بذات القدر تذري
اذا ما قيل قد حبلت فسحقاً لاولاد الزنا يضيق صدري
فما عذري إلى الأبوين فيه؟ فقد قطع الزناء حبال ظهري
(نزهة الألباب، ص 244)
أولاُ تقول الشاعرة أن من محاسن العلاقات المثلية الحصرية هو عدم الحبل وأيضاً اجتناب جزية الزنا التي كانت تُعاقب بقسوة. وهذا الكلام من الممكن أن يعني أن الكاتبة كانت في إحدى المناطق العربية التي ﻣﺍ كانت تعاقب المثلية كبغداد في القرن التاسع تحت تقنين قاضي المسلمين يحيى بن أكثم.
والقصيدة الأخرى:
وكم قد سحقنا، أخت تسعين حجّة اسّر وأخفى من دخول الفياشل
ومن حبل يرضى العدو ظهوره وأعظم من هذا ملام العواذل
وليس علينا الحد في السحق كالزنا وان كان أشهى منه عند القوابل
(نزهة الألباب، ص 244)
هذه القصيدة تردد ما قيل قبلها وبعدها بأن الشاعرة ترى نفسها مقتنعة ومرتوية بعلاقتها المثلية التي تفضلها على علاقة مع رجل وما يتبع هذه العلاقة من مشاكل اجتماعية وتناسلية.
وأخيراً في هذا المقطف أود أن أعرفكن على قاضٍ مصري متحفظ في أوائل القرن الثالث عشر، وهو وجد ﻨﻔﺴﻪ يوماً في قرافة في الصعيد المصري وخلال تجوله على بغله وقال يحدث:
"فبينما أنا أسير بين اﻠﺠﺒﺍنات سمعت في تربة من التُرَب شخيراً ونخيراً وشهيقاً يسلب العقول ويأخذ بمجامع القلوب، لم أسمع بقط مثله ولا ظننت أحد يفعله. بحركات موزونة ونغمات مطبوعة وألفاظ مسجوعة يّنسى لها نغمات الأوتار وتستخفي لديها ربات المزمار.
فسقت دابتي إلى حائط التربة ثم تطاولت وأشرفت وإذا بامرأتين، السفلى جارية تركية تُخجل البدر كمالا والغصن اعتدالا، بيضاء، غضّة، ناهد. وعليها امرأة نصيفة، بدينة، حسنة، نظيفة الزي، شكلة الا انها ليس كالسفلى، وهي تساحقها وتطارحها ذلك الكلام والسفلى تجيبها جواي مقصر كأنها متعلمة لها: (مكانك كما انت)، فبقيت مستلقية على ظهرها ثم كشفت عن بطنها وسرتها وصدرها ثوبا ازرق كان عليها، فبان لها صدر كالمرمر ونهدان كالماتان وبطن كأنه عرمة ثلج فيه سرّة كمدهن بلور إلى حرف راب ، ابيض ، مشرب بحمرة لم اشاهد قط عظمة ولا نقتة، ثم قالت لي: (ويحك يا وحش يا ثقيل، رايت قط مثل هذا؟) فقلت لها: (لا والله )، قالت لي: (فدونك غنيمة نادرة هيأها الله لك، وانصرف بحال سبيلك).
(قال): فلما شاهدت ذلك وسمعته سلب مني العقل والدين ولم املك نفسي، فقلت لها: (ويحك معي هذا البغل)، قالت: (فأنا أمسكه).
فنزلت ويشهد الله اني خالفت سجيتي في ذلك ، ثم دفعت لها عنان البغل والسوط ودخلت التربة فحللت عقد الرايات وألقيتها على ساقي ثم حللت السراويل وألقيت طرف الطيلسان من وراء كتفي وأدخلت يدي فشلت ذيولي وقربت من الجارية وانحنيت عليها، فعندما أقضيت برأس ذكري إلى شفري فرجها وجدت نعومته وحرارته لم أشعر إلا بحوافر البغل غاديا والمرأة تصرخ وتقول : ( أفلت البغل)، فقمت أنا واله العقل وخرجت فإذا البغل غاد بين الجبانات في اختلاط الظلام، لا اعلم أن غاب عن بصري حين ذهب، فعدوت وراءه وانأ في تلك الحالة، منعظ الذكر، محلول السروال، ملقى الرايات عاى وجوه أقدامي، مختل الطيلسان، أقوم مرّة وأقع أخرى." ( نزهة الالباب، ص، 240)
ما يثير إعجابي في هذه القصة هو انتصار البطلتان المجهولتان وبهدلة القاضي وتأديبه، وما يثير انتباهي أيضاً هو وصف الكلام بين الجارية التركية والمرأة التي تضاجعها. القاضي يوصف هذا الكلام ولكنه لا يردده ويترك التخايل لمست?