مقالات
التعارف عبر الإنترنت ومعادلة الرضا الصعبة
2024-11-10في عام 1998 أُنتج فيلم (you've got a mail - وصلك بريد) من بطولة الممثلين الأمريكيين توم هانكس - Tom Hanks وميغ رايان - Meg Ryan. تدور أحداث الفيلم في مدينة نيويورك بين البطلين جو - Joe وكاتلين - Kathleen، اللذين يتحدثان عبر غرفة دردشة إلكترونية، خلف اسمين مستعارين، فيقعان في الحب.
تتطور علاقة الشخصيتين عبر غرفة الدردشة، إذ يكتشف كل منهما أن ما يبحث عنه من صفات موجود عند الطرف الآخر، بينما لا يمكن إيجاده عند شريكه الحقيقي الواقعي الملموس، مما عزز شعورهما بعدم الرضا عن علاقتهما الواقعية. بدأ الطرفان يدركان أنهما يفتقدان إلى مشاعر الإشباع العاطفي مع الشريك/ة، حتى دُفعا إلى الانفصال العاطفي وهما يبحثان -دون قصد- عن هدف مجهول يُدعى الرضا!
تنمو العلاقة وتُكلل بالنجاح بعد صراعات مهنية كبيرة، إذ كان جو - Joe شخصًا رأسماليًا يهدد إرث كاتلين الوحيد من أمها، وهو مكتبة قديمة تقدم نشاطات قراءة للأطفال. وينتهي الفيلم نهاية رومانسية سعيدة بقُبلة بين البطلين، ورضوخ كاتلين وتقبلها فكرة المكتبات العملاقة التي تتعامل مع الكتب باعتبارها سلع رخيصة الثمن، وتوفر أصنافًا غير محدودة للعميل.
يلتقط الفيلم صورة نادرة للتعارف عبر الإنترنت في بداية أوجه وانتشاره، إذ يرجع تاريخ تطبيقات المواعدة إلى ثلاث سنوات قبل إنتاج الفيلم، حين أُطلق موقع match.com عام 1995 فأحدث ثورة في عالم العلاقات باعتباره أول موقع تقني للمواعدة، ساعيًا إلى تيسير عملية تحديد احتياجات المستخدمين وتلبية رغباتهم في الشريك/ة الآخر/ى، عبر عرض قائمة بصفات الشخص، مثل الفئة العمرية والهوايات والعادات ونمط الحياة - life style.
لم يمتلك جو - Joe وكاتلين - Kathleen هواتف متصلة بالإنترنت طوال 24 ساعة، أو عدة حسابات على مواقع المواعدة أو شبكات التواصل الاجتماعي تسهل عليهما الحصول على خيارات لأشخاص عديدة يعلمان عنهم الكثير قبل التواصل معهم/ن. لذا، ظلت علاقتهما بسيطة، لا تعرقلها المشتتات، على عكس ما نعيشه الآن، إذ أصبحت المواعدة عبر الإنترنت نمطًا أساسيًا في حياتنا جميعًا، وانتقلت من البلدان الغنية إلى جميع أنحاء العالم، بسبب سهولة التواصل والعثور على شريك/ة محتمل/ة.
انعكست تلك السهولة في سوق تطبيقات المواعدة، التي أصبحت سوقًا ضخمة متنامية رغم قِصر عمرها، إذ من المتوقع أن يبلغ مجموع الإيرادات العالمية في سوق خدمات المواعدة إلى 8.7 مليار دولار بنهاية عام 2023، وذلك طبقًا لتقرير الخدمات الإلكترونية الصادر عن منصة Statista المتخصصة في بيانات السوق والمستهلكين.
وبالتأكيد أثَّر هذا الحجم الهائل من الإيرادات والانتشار السريع لتطبيقات المواعدة، الذي دعمته ثورة مواقع التواصل الاجتماعي في بداية القرن الحالي، على العلاقات الرومانسية. ولكنه في الوقت نفسه يجعلنا نتساءل عما نريده بالضبط.
ماذا نريد من العلاقات الرومانسية؟
من السهل الإجابة على ذلك السؤال بإجابات متنوعة تبدو منطقية وغير مختلف عليها، مثل: الاستقرار والسعادة والأمان، وغيرها من المشاعر التي يبحث عنها الإنسان منذ أن أدرك معنى الحب وملاقاة شريك/ة آخر/ى ينتصر له/ا على وحدته/ا. لكننا نعيش في عالم ممتلئ بالمؤثرات والعوامل الأخرى التي تحدد أنماط تفكيرنا وأفعالنا وتؤثر على صحتنا النفسية، ويختلف مدى تأثيرها حسب إدراكنا لها وقدرتنا على مقاومتها.
يصل الشخص إلى ما يريده من العلاقة العاطفية خلال عدة مراحل، إذ يجب أن يحظى أولًا بعلاقة مستقرة عاطفيًا يختبر فيها مشاعر الإشباع، ثم تدريجيًا يصل إلى ما يُعرف بالرضا. فهل توفر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات المواعدة الرضا في العلاقات؟
الرضا هو أن يشعر الإنسان بأن رغباته واحتياجاته وتوقعاته مُلباة، وأن يقنع بما لديه. فهو حالة ذهنية تمكننا من الاستمتاع التام، والوصول إلى السعادة.
لكن تعدد الاختيارات والتوقعات الفائقة والتشتت هي أعداء الرضا، وهذا ما تتبرع مواقع التواصل وتطبيقات المواعدة بتوفيره، على عكس الصورة التي رسمها الفيلم (you've got mail - وصلك بريد). أحد تطبيقات المواعدة يعدك بأنك ستجد/ين "ملايين الأشخاص المناسبين رهن إشارتك وعلى استعداد لمقابلتك"، فأنت يمكنك بدء علاقة عبر نقرة على شاشة هاتفك، لتختار/ي "البروفايل" الذي يناسب تفضيلاتك ومواصفاتك في شريكك أو شريكتك المستقبلية. كل البيانات اللازمة عن الطرف الآخر متاحة على الشاشة، ليس عليك إلا أن تتخذ/ي خطوتك الأولى لتثير/ي إعجابه. ولكن هذا الوعد بالإشباع السريع يسبب العديد من التعقيدات.
يتتبع عالم الاجتماع والفيلسوف البولندي "زيجمونت باومان"، في كتابه "الحب السائل" ذلك الأسلوب الاستهلاكي السريع في العلاقات الذي يخضع لثقافة يصفها بأنها: "تفضل المنتجات الجاهزة للاستهلاك الفوري، والاستعمال السريع، والإشباع اللحظي، والنتائج التي لا تحتاج إلى جهد طويل".
بطريقة تطبيقات المواعدة، تصبح واحدًا من آلاف الاختيارات المتاحة أمام شريكك أو شريكتك المستقبلية، ما يزيد من التشتت ومحاولة كل شخص إظهار صورة مثالية لكي يجذب أكبر عدد من الشركاء المحتملين. تلك الصور المثالية ترفع سقف التوقعات لدينا ولدى الآخرين وتقصر عمر الرضا عن الشريك/ة، وهذا ما قد يؤثر سلبًا على علاقتنا إن لم نكن واقعيين في توقعاتنا من الشريك/ة والعلاقة على حد سواء. وكلما تعددت الاختيارات وزادت سهولة الوصول إليها، انخفض التزام الإنسان بعلاقاته.
يحلل باومان، في كتابه "الحب السائل" ذلك النمط من سلوك العلاقات ويطلق عليه "علاقات الجيب العلوي". تلك العلاقات التي "يحتفظ المرء بها في جيبه بحيث يمكنه إخراجها بسهولة متى أراد". فأنت لست مضطرًا لبذل مجهود كي تحتفظ بها، فهي مجرد علاقة سطحية خالية من المشاعر أو الرغبات التي تدفعك للاستمرار فيها. يمكنك التخلص منها وقتما أردت دون إبداء أسباب.
كيف يهدم البحث عن المتعة الفورية محاولة بناء علاقة صحية؟
صُممت تطبيقات المواعدة ومواقع التواصل الاجتماعي لنستهلكها لأطول وقت ممكن، ونحقق المتعة الفورية، ويعرف ذلك باسم "The Dopamine Seeking-Reward Loop" أو حلقة البحث عن مكافأة الدوبامين، إذ اكتُشف أن هرمون الدوبامين، وهو هرمون يفرزه المخ مسؤول عن الإحساس بالسعادة وتنظيم المزاج والإدراك، مسؤول أيضًا عن الاستمرار في سلوك البحث والفضول المستمر. تبدأ الدائرة من الشعور بالإثارة لمجرد حدوث matching أو تجانس مع شريك محتمل، أو استقبال رسالة، وهي دوافع صغيرة للمتعة الفورية سرعان ما تجعلنا نشعر بالإشباع، وسرعان ما تنطفئ ونبحث عن غيرها من دوافع مماثلة، وهكذا حتى ندخل في دائرة من الاستهلاك السريع للمشاعر المتتالية، فأنت في حالة تعطش لا تنتهي، كلما أشعلت الإثارة داخلك بعدت فرصك في الشعور بالرضا.
لكن الحب رحلة طويلة تتطلب الصبر والمغامرة عند محاولة استكشاف الآخر، بعيدًا عن سلوك المراهنات الذي تحاول أن تغذيه فينا تطبيقات المواعدة، المتمثل في محاولة الوصول إلى أكبر قدر من الـ matching أو التجانس في غمضة عين.
كيف نتجنب فخاخ تطبيقات المواعدة ونحافظ على صحتنا النفسية؟
تطبيقات المواعدة، مثلها مثل بقية مواقع التواصل الاجتماعي، صُممت طبقًا لقواعد وأهداف على دراية كبيرة بالسلوك البشري. كلما كنا أكثر وعيًا بحِيَلها، استمتعنا بها، وعززنا قدرتنا على حماية صحتنا النفسية من أي أضرار تحيط بنا.
توصلت بعض الدراسات إلى أن عقولنا لا تتمكن من معالجة كل المعلومات والاختيارات المتاحة عبر تطبيقات المواعدة، بل قد يمثل الأمر ضغطًا عصبيًا كبيرًا علينا، لذا فإن وفرة الاختيارات والمعلومات الزائدة عن الحد لا تمثل وعدًا بالحصول على علاقة مثالية أو الشريك/ة المثالي.
لذا من المهم اتباع بعض الخطوات للاستفادة من خدمات تطبيقات المواعدة وتجاوز سلبياتها، بسهولة:
أولًا، لا تستخدم/ي أكثر من تطبيق مواعدة أو تطبيق تواصل اجتماعي للوصول إلى الشريك/ة، في نفس الوقت. فذلك قد يعرضك إلى الاحتراق النفسي ويزيد من تشتتك وعدم قدرتك على تحديد أهدافك وتفضيلاتك.
ثانيًا، من الأفضل لك ولشريكك أو شريكتك المحتمل/ة بناء بروفايل صادق، يقترب من الواقع ويبتعد عن المغالاة والمثالية، لأن كل توقع يُبنى على صورة غير واقعية يؤثر سلبًا على علاقتك المحتملة، ويقصر عمرها.
ثالثًا، يمكنك تحديد وقت يومي لاستخدام تطبيقات المواعدة، حتى لا تقع/ين في فخ البحث عن مكافأة الدوبامين، لأن إدمان استخدام تلك التطبيقات قد يصيبك بالضغط النفسي أو يعمق من شعورك بالوحدة وانخفاض تقدير الذات.
في نهاية الأمر، تطبيقات المواعدة حاضرة في حياة الكثيرين، وبرزت بشدة بحيث لا يمكن التغاضي عنها، تخضع لمقاييس الرأسمالية وقيم العرض والطلب، فالحب والعلاقات الرومانسية بالنسبة إلى هذه التطبيقات مجرد سوق كبير يولد ملايين الدولارات، ونحن مجرد سلع معروضة في فاترينات التطبيق، كلما استمر التداول على تلك السلع راج سوق التطبيق. هذا لا يجعل منها شيطانًا يفسد حياتنا، إنما يجعلنا حذرين في التعامل معها واستخدامها لصالحنا، من أجل الوصول إلى الشريك أو الشريكة المثالية، وهذا لا يعني شريك/ة خالٍ/ية من الأخطاء، إذ سيكون شريكًا/ة له/ا صفات البشر وعيوبه، يخطئ ويصيب، ولا يشترط أن يكون متوافقًا معنا مئة بالمئة، إنما يمكنه أو يمكنها التفاهم معنا وتلبية رغباتنا وتوقعاتنا.