مقالات
العلاقة مع الشريك/ة النرجسي/ة.. ما وراء الجاذبية الطاغية
2024-11-10"أحب الاهتمام، ومنذ اليوم الأول الذي تعرفت عليه فيه أصبح موجودًا في كل تفاصيل حياتي، لا يتركني أفعل شيئًا وحدي أبدًا، يحدثني في الهاتف طوال الوقت، فيعرف كل تحركاتي الصغيرة قبل الكبيرة". تحكي داليا (اسم مستعار)، 28 سنة، عن علاقتها التي استمرت لمدة 5 سنوات مع شريكها، ورغم انتهاء العلاقة، ما زالت تحمل أثرًا سلبيًا على حياتها.
عرف علي (اسم مستعار) كيف يتحكم في حياة داليا ويُسَيِّرها وفقًا لأهوائه، تقول: "كان لا يتركني أجيب على رسائل أصدقائي من دون إذنه، وبحكم وجودنا سويًا في عمل واحد، كان يمنعني من أن أصافح أي زميل باليد، حتى خطوبة أختي الصغرى كان يحاول إقناعي ألا أسافر لحضورها بحجة أنه لا يريدني أن أبتعد عنه. أصبحت في عزلة عن كل من حولي، وحتى دراستي للماجستير جعلني أًقَصِّر فيها، وكان يقول لي: ماذا ستفعلين بالماجستير؟ فبعد خطبتنا سأجعلك تتركين العمل".
بعد العلاقة، وعندما توجهت داليا إلى طبيب نفسي سعيًا للتعافي منها، أخبرها الطبيب أن هذه التصرفات تشير إلى أن شريكها السابق يعاني من اضطراب الشخصية النرجسية.
سألنا داليا عن سبب تحملها هذه التصرفات على مدار السنين، وأجابت قائلة: "عندما كنا نتشاجر سويًا، كان لا يعطيني فرصة للتعبير عن الضيق ويصالحني سريعًا حتى لو كنت أنا من ضايقته، وعندما كنت أختفى وأغلق هاتفي، كان يهاتف صديقاتي أو والدي بحجة أنه يحتاجني في العمل، فكان يبدي طوال الوقت اهتمامه لأمري".
قرر علي أن ينهي علاقته بداليا عندما بدأت فتاة أخرى تظهر في حياته، وقال لها: "مشاعري تجاهك انتهت، وأصبحت لديَّ الآن مشاعر تجاه فتاة أخرى، لكني أرغب أن تبقي كصديقة في حياتي". هنا لم تتحمل داليا الصدمة وأصيبت باكتئاب ذهبت على أثره إلى الطبيب النفسي، خاصة أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد.
تقول داليا: "كلما حاولت الابتعاد عنه كان يقترب مني ثانية ويحاول التحكم في حياتي من جديد بحجة أنه يخاف عليَّ، وأن العِشرة تًحَتِّم عليه ذلك، وكان يعنفني عندما يراني أتقرب من أي شخص داخل العمل، وفي الوقت نفسه كان يرفض محاولاتي ليعود إليَّ، لذا نصحني طبيبي أن أوقف أي تعامل معه، ولا أعطيه الفرصة للتعامل كما كنا من قبل، حتى أستطيع التخلص من تأثيره".
أصبحنا نقرأ ونسمع بكثرة وصف "نرجسي/ة"، خاصة في العلاقات العاطفية غير الناجحة، فعندما تسأل الطرف الذي وقع عليه الأذى في العلاقة، ينعت شريكه السابق بأنه كان "نرجسيًا/ة"، وقد لا يكون كذلك. اضطراب الشخصية النرجسية اضطراب نفسي، ويكون لدى المصاب به سمات محددة تميزه، وكذلك طرق محددة للإيقاع بضحاياه، لذا لا بد أن نتساءل عن كيف نعرف أننا في علاقة مع شخص يعاني من اضطراب الشخصية النرجسية؟
اضطراب الشخصية النرجسية
يُعَرِّف موقع "مايو كلينيك" هذا الاضطراب بأنه حالة نفسية تؤثر على الصحة العقلية للمرضى، إذ يشعرون بأهميتهم الكبيرة، فيحتاجون إلى قدر عالٍ من الاهتمام، ويريدون أن يُعجَب بهم/ن الناس. كما أن المصابين/ات بهذا الاضطراب تغيب لديهم/ن القدرة على فهم الآخرين والاهتمام بمشاعرهم/ن، وخلف هذا القناع من الثقة المبالغ بها بالنفس، هم/ن لا يعرفون قيمة أنفسهم/ن الحقيقية وينجرحون بسهولة إذا تعرضوا/ن إلى أقل قدر من النقد.
عادة ما تبدأ أعراض هذا الاضطراب في الظهور في سن المراهقة، وإن كانت أسبابه قد تعود إلى طبيعة النشأة في الطفولة، إذا يكون المصاب/ة قد تلقى تدليلًا مبالغًا فيه أو إهمالًا مبالغًا فيه، ولكن للجينات والوراثة دورًا أيضًا في ظهور الأعراض. وعادة ما يكون الرجال أكثر عرضة للتأثر باضطراب الشخصية النرجسية من النساء.
من الشائع أن يذكر الذين دخلوا علاقات مع نرجسيين/ات أنهم/ن عانوا خلال هذه العلاقة، ولقد قد يدهشنا أن الكثير من النرجسيين/ات أيضًا يرون أن العلاقات التي يدخلون فيها غير مشبعة، أو أن العلاقات في العموم تسبب لهم/ن المتاعب.
ولكن علينا أن نكون حريصين قبل أن نطلق على شخص يحمل سمات أنانية أو اهتمامًا عاليًا بالنفس وصف النرجسي/ة، لأن هذه السمات قد توجد عند العديد من الأشخاص بنسب متفاوتة لا تصل إلى حد الاضطراب. بالإضافة إلى ذلك فعادة ما يكون المصاب باضطراب الشخصية النرجسية غير واعٍ بطبيعة أفعاله/ا وتصرفاته/ا، ولا يسعى إلى تغييرها، لذلك يصعب عليه/ا التوجه إلى طبيب/ة نفسي/ة وعلاج الأمر.
للنرجسية وجوه خمسة
قد يكون لدى من يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية سمات معتادة، ولكن هذا لا يعني أنهم/ن نوع واحد. إذ نعرف من دراسات الطب النفسي أن اضطراب النرجسية متنوع وتصل تنويعاته إلى خمسة أنماط، وهي بحسب موقع :Very Well Health
1. النرجسية العلنية: هذا هو النوع المنتشر والأكثر بروزًا، فهذا الشخص عادة ما ينشغل بكيفية رؤية الناس له/ا، ويكون لديه/ا إحساس زائف بالاستحقاقية.
2. النرجسية السرية: ليست واضحة مثل النرجسية العلنية، والشخص المصاب بها يكون مشغولًا أيضًا بنظرة الناس إليه، لكنه يفعل ذلك بطرق ملتوية، على سبيل المثال ينتقص من قدر الناس ويتلاعب بهم/ن أو يهملهم/ن عاطفيًا، وفي الوقت نفسه يرى نفسه ضحية.
3. النرجسية العدائية: يسيطر على الشخص المصاب/ة بها الإحساس بالتنافس والغرور والخصومة.
4. النرجسية الخبيثة: يعتبر هذا النوع هو الأكثر إيذاءً لأنه عادة ما يرتبط باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، ومن صفاتها العنف والبارانويا (الارتياب) وغياب التعاطف مع الآخرين.
5. النرجسية المجتمعية: الشخص المصاب/ا بهذا النوع يكون مثل من لديه/ا نرجسية سرية، وهم من يكونون مفرطين/ات في تضحياتهم/ن وإيثارهم/ن، لكنهم/ن يرغبون من وراء ذلك في نيل إعجاب الآخرين.
فخ الشريك النرجسي
يؤثر الارتباط بشخص نرجسي على الطرف الآخر أثناء العلاقة، وبعد الانتهاء منها أيضًا. فأثناء العلاقة يصبح لهذا الشخص سيطرة كاملة على حياة الطرف الآخر، فلا حياة له/ا من دونه/ا، فهو شريك/ة في كل تفاصيل حياته/ا، وتُرَجَّح كفته/ا لدى الشريك/ة أمام كفة أي من الأصدقاء أو حتى دائرة الأهل، وبهذا يضمن أن تظل ضحيته/ا تحت سيطرته/ا؛ لذا بعد انتهاء هذه العلاقة يشعر الشريك/ا بالوحدة الشديدة لأنه استبدل الجميع في حياته/ا بهذا الشخص؛ لذلك قد يفضل البعض الاستمرار في علاقة مؤذية على أن يتحمل الشعور بالوحدة، والتيه من دون الشريك/ة.
كان شريك نورا (24 سنة) يغدق عليها مشاعر الحب والاهتمام في البداية مثلما يفعل أي شخص نرجسي، ويدعمها في مشكلاتها مع والدتها، ويجعلها تحب ما تكرهه في نفسها، ومع الوقت أصبحت تعتمد عليه اعتمادًا كليًا في كل تفاصيل حياتها، لدرجة أنها لا تشتري ملابس جديدة إلا معه، ولا تتحرك خطوة إلى أي مكان من دونه، ما أثَّر عليها فيما بعد بصورة سلبية.
تقول نورا: "بعد أن تخلصت من علاقتي معه، لم أعد أعرف كيف أتصرف وحدي، كما أنه كان لا يساعدني على الاهتمام بنفسي ومظهري، بحجة أنه يراني جميلة في كل الأحوال. وفي الوقت نفسه يمدح في فتيات أخريات أمامي بصورة مبالغ فيها، فيقول لي مثلًا أرأيت فستان فلانة كيف كان يجعلها جميلة؟ هل عرفت أن صديقتنا سهى تعمل الآن في وظيفة كبيرة؟ هذا فضلًا عن خيانته لي باستمرار، ما أفقدني الثقة تمامًا في نفسي. صرت شخصية هشة، وأثَّر هذا على دراستي، فتركت كلية الفنون الجميلة التي كنت أحبها بسبب ضرورة بذل جهد كبير فيها، وانتقلت إلى كلية الحقوق. استمر هذا الوضع حتى قررت التوجه إلى طبيب نفسي".
وأضافت نورا: "كنا عندما نتشاجر سويا يمنعني من أن أحكي لأي شخص حتى لا نظهر أمام الناس سوى بمظهر المحبين الذي يتمنى الجميع أن يصبحون مثلهما، أتذكر في إحدى المرات عندما كنت أبكي بسببه أمام الناس احتضنني وهمس في أذني: (لا تبكي هكذا أمام الناس حتى لا يعرفون أن هناك خلافًا بيننا)، وبحدة أكثر: (إذا لم تتوقفي عن البكاء سنغادر الآن)، وكانت نصائحه تصب دائمًا حول أنني لا بد أن أخفي كل أنواع المشاعر التي أمر بها، وألا أظهر ضعفي أمام أي إنسان، فلا أبكي ولا أشكو، ومن الأفضل ألا يعرف أي إنسان شيء عني، حتى أنني بعد أن تركته كنتُ أعاني من تبلد المشاعر وهذا أول ما كنت أحاول علاجه مع طبيبي النفسي".
ما وراء الجاذبية
تقول الطبيبة النفسية بمستشفى قصر العيني هانيا جمال: "الشخص النرجسي يرى أنه شخص ليس له مثيل، وبالتالي يهتم بنفسه للغاية، ولذلك يصبح الذكور منهم جذابين لمعظم الفتيات، فهو شخص يحاول إصلاح ما شعر به في الصغر ظاهريًا من خلال الاهتمام بمظهره، وعمله، أحيانًا كتعويض عن حالة الانكسار والإهمال التي مر بها في طفولته، لذا تشعر الفتاة أنها محظوظة لأن هذا الشخص الجذاب أحبها واختارها، وهذه النقطة هي ما يركز عليها الشخص النرجسي للإيقاع بضحاياه".
وأضافت جمال: "في البداية، يتعامل الترجسي مع ضحيته بقدر كبير من الاهتمام، من خلال ممارسات عديدة مثل شراء الهدايا، والاهتمام بالتفاصيل، وبالتالي تراه الفتاة أفضل إنسان، حتى يحدث الشجار الأول بينهما، هنا يظهر الجانب الآخر من شخصيته، فيبدأ في التقليل من الشريكة بل وإقناعها أنها تعاني من مشكلة، فهو طوال الوقت يعطي الآخر صورة سيئة عن نفسه. وحتى لا تبتعد شريكته عنه، يبدأ في معاملتها بصورة حسنة مرة أخرى حتى يضمن رجوعها إليه ثم يكرر معاملته السيئة ثانيةً".
من المهم إذا بدأ الشريك/ة النرجسي/ة ممارسة تصرفاته/ا التقليدية من إيذاء ورغبة في الاستحواذ، أن نحاول إيقافه/ا عن فعل ذلك من خلال الحفاظ على حدودنا بصرامة، وإذا استمرت في هذه التصرفات ولم يحاول تغييرها أو اللجوء إلى العلاج، قد تكون النصيحة الأفضل هي قطع وسائل الاتصال معه/ا.
وعلينا أن نضع في الاعتبار أن الشخص النرجسي/ة لا يترك ضحيته/ا تخرج من حياته/ا بسهولة، بل يحاول جاهدًا أن تظل موجودة في حيز ممتلكاته/ا؛ لأن هذا يغذي لديه الشعور بذاته وأهميته، كما أنه له طرقه/ا في استعادة العلاقة مع شريكه مرة أخرى، فمهما سبب له/ا من أذى، قد يستسلم شريكه للعودة إليه. لذلك علينا أن نكون على دراية بهذا النمط، وألا نسمح بتكرار الإيذاء.