لماذا نخاف الحميمية؟

2024-11-10

9.2.2007


 الحميمية مع النفس ليست أنانية ولكنها ضرورة- "كن نفسك "


"إعرف نفسك" قالها قديماً فلاسفة اليونان وإعتبروها شرطاً أساسياً من شروط دخول قدس أقداس الفلسفة، ولكننا الآن على يقين من أنها ليست شرطاً أساسياً للتفلسف فقط ولكنها شرط أساسي للعلاقات الحميمة أيضاً.
وإذا كان الفلاسفة قد قالوها قديماً، فقد قالها علماء النفس والإجتماع حديثاً، من أمثال أريكسون فى عام 1963 وروجرز 1972 وولف 1982، فقد إنتهوا فى أبحاثهم إلى نفس النتيجة الهامة وهي أنه لا قدرة لإنسان على إقامة أو بناء علاقات حميمة مع الآخرين بدون أن يكون قد إمتلك مسبقاً ومنذ البداية إحساساً قوياً ومعرفة راسخة بالذات، ودرجة قبول عالية للنفس، مثل هذا الإحساس سيساعدنا على معرفة إحتياجاتنا، وعلى التأكد من مشاعرنا وإبرازها، وبالتالى سيمكننا من المشاركة والتواصل مع الآخرين.

أن تقبل نفسك هذه كلمة السر في العلاقة الحميمة مع الآخر لأنها تسمح لك بأن تكون نفسك ولست شخصاً آخر تحاول أن تتقمص شخصيته، وإذا كان كبار الفلاسفة قد قالوا "إعرف نفسك" فنحن نضيف "كن نفسك"، كن نفسك بصدق ولا تحاول أن تضع ماكياجاً صارخاً فتبدو كالبهلوان، كن نفسك بصدق ولا تستعير الآخرين أو ترتديهم، فهم سيكونون إما كائنات فضفاضة تسقط منك عند أول بادرة حركة، أو كائنات ضيقة تخنقك وتكبس على أنفاسك في الشهيق وفي الزفير.

 

إن لم تقبل ذاتك أو تحبها، أو إذا أحسست بالخجل منها سيصبح من الصعب بل من المستحيل أن تنشئ أو تحتفظ بعلاقة حميمة، ما دمت مشغولاً بأن تؤكد للآخرين على أنك شخص جيد، وما دمت محاصراً بالسؤال الخالد "هل أنا إنسان مقبول؟"، أو فى النهاية وبإختصار مشغول بأن يعرفك الآخرون ويحترموك، وحتى إذا نجح مثل هؤلاء الأشخاص "الموسوسين" فى محاولاتهم، فإنها تأخذ منهم جهداً فظيعاً ووقتاً طويلاً.

نوع آخر من الناس هم "القلقون على" أو "المحبطون من" ذواتهم وأنفسهم، وهذا النوع يتعامل مع مشاعره بطريقة تغلق أو تسد الطريق أمام معرفة الذات، وهم يفعلون ذلك بطرق كثيرة منها مثلاً: تعاطي الأدوية بما فيها الكحوليات للهروب من مواجهة الذات، أو يجلسون أمام التلفزيون فاغري الأفواه، لكي ينتزعوا أنفسهم من أنفسهم، أي أنهم يقومون بعملية نشل، لكنها ليست نشلاً لمحفظة وإنما نشل للذات، للنفس بموافقة نفس الشخص الذي لا يبلغ قسم البوليس على الإطلاق عن عملية النشل هذه بل يفرح وينبسط و"يطنش"!

هناك طريقة أخرى يلجأ إليها هذا النوع من البشر، وهي طريقة الإنغماس فى العمل حتى النخاع، تحت دعوى الجدية والإخلاص، لا تضحك على نفسك إذا كنت من هذين الصنفين السابقين وتقول: "لا بالرغم من ذلك أدخل فى علاقات"، لأنه ببساطة دخول بغرض حمايتك بواسطة الآخر أو تسليتك من خلاله، وهذا بالطبع حل مؤقت ومزيف وخادع.


لكن هل يعنى ذلك أن كل شخص لا بد أن يكون سعيداً تماماً بنفسه، راضياً عنها و"منشكحاً" تمام "الإنشكاح" حيال أفعالها وصفاتها؟، بالطبع لا، فكل واحد منا إذا نظر إلى أعماق ذاته بقليل من الصدق لن يرضى عما في داخل هذه الأعماق، ولكن ما نقصده هو أن نقوم بعملية غربلة مستمرة نفصل فيها ما نحبه فى ذاتنا عما نكرهه فيها، ونحاول أن نتغير، هذا هو الفرق الجوهري، فحين تقف عجلة هذا التغيير وتصدأ تروسها يكون المرض، ولا يكفى أن ترفض ثم ترفض ثم ترفض، ولكن إرفض ثم تمرد ثم قم بالتغيير.


فى النهاية يحذرنا علماء النفس تحذيراً هاماً، وهو أننا لابد أن نحتفظ بجزء ما من ذواتنا أو إحساسنا بالذات، حتى لو إنغمسنا فى علاقة حميمة مع الآخر، وينصحوننا بألا نكون منشغلين بهذه العلاقة لدرجة تسرق الإحساس من أناملنا فلا نستطيع حتى أن نتعرف على أنفسنا لأن الضوء المبهر لهذه الحميمية فى بعض الأحيان يعمي الأبصار والبصائر.


العلاقة الحميمة التي تمتص معظم وقتنا وجهدنا وتستنزف عواطفنا من الممكن أن تكون مبهجة نوعاً ما أو ممتعة لدرجة ما، ولكنها تترك وقتاً ضيقاً جداً للتعرف على النفس، وتدع ثقباً كـ "خرم الإبرة" ليطل منه الإنسان على ذاته، هذه العلاقة الحميمة التي أسميها علاقة "ورقة النشاف" والتي تمتصك كلك، هي علاقة مدمرة أكثر منها علاقة خصبة، وعلى العكس من العلاقات الحميمة التي تساعدك على قبول ذاتك ومعرفة نفسك أكثر، تلك هي التي تكون العلاقات السليمة الصحية المبشرة.
 

 

 الحميمية مع الآخر 

الحميمية ليست واحداً صحيحاً لا يقبل القسمة إلا على نفسه، بل هي أجزاء ومكونات وعناصر، لا نستطيع تقسيمها على حسب درجة شدتها أو قوتها فحسب، بالمقارنة مع علاقة أخرى، ولكن فى نفس العلاقة من الممكن أن تختلف درجة الحميمية من حين إلى آخر، تتذبذب كبندول الساعة تبعاً لتوقعات كل طرف عن مشاعر الطرف الآخر، وطبقاً لآمال كل منهما فى الآخر، ففى بعض الأحيان يتعامل الشخص مع العلاقة كموظفي المصالح الحكومية الذين يعانون من مرض الإضطهاد المزمن، يسخطون دائماً، ويمارسون فى وقت الفراغ مزيداً من السخط، هذا الشخص يحس على الدوام أن هذه العلاقة ليست عادلة، والأحاسيس فيها من جانب واحد، ويظل يبحث عن هذه القسمة المتساوية للأبد وينشغل بها ويفقد القدرة على المتعة والإمتاع، على العكس من الأشخاص الذين يرون دائماً أنهم يعيشون علاقة متوازنة، فهؤلاء بالفعل هم الأكثر رضا وسعادة .

بالطبع هذا الكلام لا يعنى أننا نغفل تأثير الظروف الخارجية والأجواء المحيطة التي من الممكن أن تساعد على إحباط العلاقة، مثل البعد الجغرافي أو المكاني، وأيضاً ضغوط العمل التي تحول مؤقتاً الإهتمام وتستنفذ طاقة الشخص بعيداً عن حقيقة العلاقة إلي أوهام أخرى.
لكي نفهم الحميمية أكثر لابد أن نفهم ونختبر عناصرها الأساسية، مثل الإهتمام والمشاركة والثقة والإلتزام وغيرها، مما سيساعدنا في فهم سر هذه العاطفة، ولكن هل توجد هذه العناصر منفردة ومعزولة عن بعضها البعض؟، بالتأكيد لا، فالحميمية سبيكة مكونة من عدة معادن، أقصد مشاعر كل منها متفرد عن الآخر ولكنه يقوى الآخر ويزيد من صلابته، وبالتالي من صلابة السبيكة كلها.

 


الإهتمام والمشاركة
الإهتمام موقف وشعور إيجابي تجاه الآخر، ومن الممكن أن تهتم بشخص ليست لك معه علاقة شخصية مباشرة، على سبيل المثال إهتمامك بمن ينتظر معك الأتوبيس على المحطة، أو يشاركك نفس "الترابيزة" في قاعة الإطلاع في المكتبة، هذه الإهتمامات ليست هي المقصودة فى العلاقة الحميمة، إنما المقصود هو الإهتمام والعناية التي تحدث حينما يتفاعل إثنان فى علاقة مشتركة، لأن الإهتمام الأول يشبه إهتمام جندي أمام خريطة للمواقع العسكرية المطلوب منه تدميرها، أما الإهتمام الثاني فهو إهتمامه بالهجوم والدفاع داخل هذه المواقع نفسها!.
لكي يتحقق هذا التفاعل ما بين الأفكار والمشاعر والخبرات، هذا التفاعل الذي يخلق الحميمية وينميها، لكي يتحقق هذا لابد من بذل بعض الجهد والوقت لتعلم فن معرفة الآخر.

معرفة الآخر فن، والفن حر لا يعرف القيود أو العوائق التي نضعها حول أنفسنا، ونكبل بها أيدينا وأرجلنا وأعناقنا بل وأرواحنا بإسم حماية خصوصيتنا، وأول دروس هذا الفن وأغلاها قيمة وأكثرها نفعاً هو كشف الذات وتعرية النفس، إنه" الستربتيز" الوحيد الذى لا نطلب له بوليس الآداب أو شرطة السياحة، إنه القرار والإرادة في أن تخبر شخصاً آخر بما فى عقلك وقلبك، أن نهاجر من جزر الخرس التي تمنحنا إحساساً مزيفاً بالأمان لكي نسكن مدينة المكاشفة، هي مدينة مزدحمة حقاً، فيها فضول الجيران حقاً، تعلو فيها "كلاكسات" التساؤل والإقتحام حقاً، ولكنها مدينة حية، ولكي يتحقق الإهتمام الحميم لابد أن تشد رحالك إلى هذه المدينة. مدينة المكاشفة، حيث تصبح كوكباً بلا غلاف جوى، حيث تصبح إنساناً مخروم الأوزون!!!!.

 

يظل العمل الوحيد والشغل الشاغل لمصلحة الأرصاد العاطفية في أي علاقة هو قياس درجة حرارة الثقة وإتجاه رياحها، فالثقة تمنح الدفء، وبدون الثقة يكون الموت في البرد القارس.
 

المكاشفة لا تخلق في فراغ أو تتحرك في فضاء فسيح، وإنما تعتمد فى تحركها أو نموها على درجة الثقة المتبادلة التي تشجع أي طرف على أن يتعرى نفسياً، دون أن يخاف من أن يفشى الطرف الآخر عيوبه أو يكشف عوراته، ولكي تتحرر من الرداء المصنوع من الجبس والذى يكبت مشاعرك، لابد أن تثق في أن الآخر لن يشرح إلى أي مدى تضخم كرشك، أو تقوس ظهرك، أو تجعد جلدك، أو ترهلت عضلاتك!، ولكن سيشرح فقط كم كنت إنساناً ورفيقاً ممتازاً.
بمثل هذا يكون الإهتمام والمشاركة، فالثقة تحتاج إلى بناء مشترك وتنمو مع الزمن، والثقة تتحول من سائل هلامي ليس له قوام إلى مادة صلبة بمعادلة بسيطة جداً، وهي ألا تكون كائناً صوتياً فقط، أو حنجرة "طلع" لها بني آدم، فأن تتكلم وأن تعد يعنى أن تنجز، وأن تعديه بألا تضحكي على أسراره القديمة أو تفشيها يعنى أن تفعلي ذلك، هنا ينتفي الخوف، ويختفي شبح التوجس إلى غير رجعة، فالعلاقة التي يتضخم فيها التوجس والشك، والتي يفتتح كل طرف فيها سفارة عند الطرف الآخر ليتبادل فيها التمثيل الدبلوماسى، ويكون فيها كل أعضاء السفارة جواسيس وأفراد مخابرات، هذه العلاقة لن تصبح حباً بل ستصبح "تلكيكة"!

 


الإلتزام
عنصر آخر من عناصر تكوين العلاقة الحميمة، عنصر هام، لكنه ثقيل الدم على قلوب معظم المحبين، إنه الإلتزام الموجود دائماً بين سطور الكلام، المفقود دائماً فى أفعال الأنام!.
الإلتزام فى علاقاتنا العاطفية عنصر هام حقاً، ولكنه كالفقيد المرحوم في الجنازة، الكل ذهب ليشيعه، والجميع يتحدثون عن كل شئ، وفى كل شئ إلا سيادة المرحوم، وفي سرادق عزائه الذي هو أفضل الأماكن لممارسة النميمة، ينساه الجميع، ويتحدثون فى شئونهم الخاصة، بل ويضحكون فى بعض الأحيان.
الإلتزام ضرورى للحفاظ على الحميمية خلال أوقات الهزات التي تعتري العلاقة خلال الملل والإحباط والإجهاد وكل ما من شأنه أن يتسبب في إرتباكها، كما هو ضروري أيضاً خلال أوقات المتعة والبهجة والإثارة، الإلتزام ببساطة عدو المثل الشعبى "في الفرح منسيين، فى الحزن مدعيين". 

الإلتزام نظام صارم وعهد ووعد حاسم، فالملتزم يأخذ شيكات على نفسه، ويطالبها بالسداد في مواعيد محددة مسبقاً، ولذلك فالعلاقة الحميمة الناجحة هي التي تستطيع أن تصنع هذه الطبخة الجميلة من الإلتزام بإضافة القليل من بهارات الفوضوية والإستقلال، التي بزيادتها يكون الأكل حراقاً، وبقلتها يصبح فاقداً لأي طعم.

 


عناصر الحميمية الأخرى
الأمانة عنصر هام آخر من عناصر تكوين العلاقات الحميمة، ولكن الأمانة الزائدة عن الحد ستنقلب حتماً إلى الضد، فالأمانة الكاملة والمكاشفة على البحرى هي ألغام تدمر أي علاقة، ولا بد أن توارب باب خزانتك التي تحتفظ فيها بأسرارك ولا تعطى أرقامها السرية للطرف الآخر، وتعلم كيف توصل رسالتك مع الحفاظ على بعض السطور مكتوبة بالحبر السرى، لأن هناك فرق واضح بين الحفاظ على بعض الأشياء والأسرار الخاصة وبين الخداع، الخداع شئ تشارك فيه بإيجابية، تغير فيه وتبدل، وتضيف وتحذف، والإنسان إذا خادع فى علاقته وإكتشف الآخر هذا الخداع فمهما أثبت هذا الإنسان حسن النوايا فإن الثقة ستكون قد تاهت فى دروب هذا الخداع، لذلك يكون إطلاق الأكاذيب أكثر ضرراً وتخريباً من الإحتفاظ بالخصوصيات، وإذا سألك رفيقك عن شئ تحس أنك لن تستطيع مناقشته بصراحة وأمانة فلتقل دائماً: أنا لا أريد مناقشة هذا الموضوع، بدون أن تنتهك ثقة هذا الرفيق.
الأمانة شئ مطلوب، أما الأمانة الكاملة فشئ مستحيل، فلا تطمح إليها وتطالب بها وإلا لأصبحت مثل المخرج الذى يطلب من بطل فيلمه موتاً واقعياً، ويصرخ فيه إضرب نفسك بمسدس حقيقى عايز الجمهور يصدق إحساسك!!

نأتى إلى دور التعاطف فى خلق الحميمية، والتعاطف هو القدرة على أن تفهم وتتعامل مع مشاعر الآخر ووجهات نظره، ولكي تحدث المكاشفة المطلوبة التي تحدثنا عنها لابد أن يحس كل فرد بأنه ينصت إلى كلامه أو كلامها، وأن يفهم هذا الكلام أو على الأقل يقبل بواسطة الآخر، وسوف يؤدى هذا التعاطف إلى مساعدة كليهما فى دعم ومساعدة الآخر وتجنب تدميره وإستفزازه.
أهم ما ننساه ونهمله ونغتاله باللامبالاة برغم أنه واحد من أهم عناصر أو خيوط نسج العلاقات الحميمة، فهو التعبير عن الحنان فنحن وبجدارة وخاصة الرجال لا نستطيع التعبير أو ممارسة الحنان، إننا نراه ترفاً أو عيباً أو حراماً أو إهانة.
الحنان من الممكن أن يعبر عنه بالكلمة أو باللمسة، أن تحتضن اليد اليد وتبثها نجواها، أن تربت الأصابع وهي منتشية على الخد الذى ينتظر لمسة البهجة، أن تطبع القبلة التي تتخاطب فيها الشفاه بلغة سحرية، ليست لها مفردات أو قاموس أو مترادفات، اللغة التي ليس لها صوت ينتقل في الفراغ، هنا في القبلة تتمرد اللغة على الفراغ، تذوب المسافات والحدود، وأن يتم العناق حيث التشبث بالحبيب طلباً للدفء، للأمان، للإطمئنان، للتواصل، للنشوة.
لا تعتبر أيها الرجل تعبيرك عن الحنان إنتقاصاً من قدرك، لا تعتبره تصرفاً غير رجولي، بل هو قمة التقدير والرجولة، وتذكر أن هذا التعبير كلامى وجسدى، وأن التعبير الكلامى ليس أقل على الإطلاق من التعبير الجسدى عن هذا الحنان، ليس ضرورياً أن يكون تعبيرك الكلامى مستوفياً لشروط النحو والصرف والبلاغة، ولكن من الضرورى أن يكون مستوفياً لشروط التعاطف والتواصل والحميمية.
الحميمية خصم عنيد لمن يبخل بعواطفه ويضعها فى "صرة" ويخفيها في "السحارة" أو تحت البلاطة، الحميمية ملك لمن يصرف ما فى الجيب - أقصد ما فى القلب- ليأتيه ما في الغيب وهو الحب.

 
هل المرأة أكثر حميمية أم الرجل؟
من هو الأكثر حميمية الرجل أم المرأة؟

سؤال صعب إحتاج إلى أبحاث كثيرة ومجهدة للوصول إلى إجابة عنه، عشرات وعشرات من علماء النفس حاولوا الوصول إلى شاطئ اليقين، ولكن أمواج الشك ماتزال حتى الآن تغمر الجميع وترفض أن تبوح إلا ببعض الأصداف والرمال.
توصلت دراسات كثيرة إلى أن النساء عموماً أكثر قدرة على المكاشفة من الرجال (ومنها دراسات ماركل وفيشر ورينبارك ولونج...)، كل هذه الدراسات تجمع على أن الفتيات والنساء يصارحن أصدقاءهن أكثر مما يفعل الأولاد والرجال، وأكثر من ذلك فإن الفتيات أسرع وأمهر فى تكوين الصداقات من الأولاد، كما أثبتت دراسات ماكوبى وجاكلين فى بحثهما الذى تم نشره 1974، وقد أثبتت الأبحاث أيضاً أن النساء أسهل في تكوين العلاقات ومنحها صفة العمق أكثر من الرجال.

لكن أبحاثاً أخرى على نفس المستوى من الجدية والإهتمام أثبتت أن الفروق طفيفة لا تكاد تذكر بين الإثنين، ومن أهم هذه الأبحاث البحث الذى أجراه روبين وزملاؤه 1980 على 231 علاقة بين شباب الجامعة، وحاول أن يحدد فيها نسبة المكاشفة فى الرجل والمرأة، وأيهما يتفوق على الآخر، وقد إنتهت الدراسة إلى أن 75% من كل جنس قد كاشف الآخر عن خبراته الجنسية السابقة، و73% من الرجال و 74% من النساء قد كاشفوا عن إحساسهم الجنسي الحالي تجاه بعضهم البعض، و 48% من الرجال و 46% من النساء أعطى رفيقه الآخر آراء أمينة عن مستقبل العلاقة.

لاحظ العلماء الذين أجروا البحث إختلافات غير ملحوظة بين الجنسين فى نوعية المكاشفة، فعلى سبيل المثال النساء أكثر مكاشفة فيما يختص بالمخاوف والهواجس والمشاعر تجاه الحبيب، بينما الرجال أكثر مكاشفة فيما يختص بالأشياء التي يفتخرون بها أو يحبونها فى رفيقاتهم!، لكن الأبحاث تعود ثانية إلى إثبات أن الرجل يخاف من القرب الحميم على عكس المرأة (بحث كابلان 1979 وشوارتز 1983)، هذا الخوف أثبته العلماء حتى فى العلاقات الشاذة، فالمثليات من النساء أكثر حميمية من المثليين الرجال ( روبنز 1973) لكن علامة الإستفهام التي تفرض نفسها هي كيف نفسر مثل هذه الإختلافات؟

أولاً: هذه الأبحاث تركز فقط على الجانب الكلامي في العلاقات الحميمة، وتتجاهل الحميمية كعلاقة مركبة نامية مع الوقت وجهد الطرفين، وأرض النمو هذه تروى بمياه أخرى غير مياه الكلام، وهي مياه الإقتراب الجسدى والإهتمامات المشتركة التي تتفوق في بعض الأحيان على مباريات الكلام" البنج بونج" الساخنة.

ثانياً: إذا إتفقنا مع تلك الأبحاث التي تثبت أن المرأة أكثر حميمية من الرجل - وأنا شخصياً أتفق معها - فإن ذلك يرجع إلى الإختلافات المبدئية التي خلقها المجتمع عبر العصور بين الرجل والمرأة في هذه الناحية وهي مهارات إقامة العلاقات الحميمة، فالمرأة بصورة عامة قد تعودت أن تظهر مشاعرها وألا تخفيها وألا تحس بالخجل وهي تعلنها بل في أغلب الأحيان يصبح هذا الإعلان نقطة لصالحها، وميزة تضاف إلى ميزاتها أو ثروة تضاف إلى رصيدها، بينما يلقن الرجل منذ طفولته بأن الرجولة هي كتم المشاعر وإخفاء العواطف، أي بإختصار النساء تعبر والرجال تكبت، أو كما يقولون بالإنجليزية " WOMEN EXPRESS , MEN SUPRESS بالإضافة إلى أن المرأة منذ طفولتها تؤمن بفضيلة اللمس، فالكل يربت عليها بحنان، ويداعب خصلات شعرها، ويقبلها كطفلة ومراهقة، أكثر من الطفل أو المراهق الذكر، لأننا للأسف نربط ما بين أن نلمس إنساناً برقة وبين أنه صعبان علينا أو "غلبان".


تلخيص هذه المتاهة البحثية فى كلمات الباحثين روبنشتاين وشيفر 1982 حين كتبا "الرجال مستفيدون من العلاقات الحميمة أكثر منهم واهبين لها".

 


مشاكل الحميمية 
تقابل العلاقات الحميمة ومحاولة إقامتها العديد من المشاكل يمكن حصرها في ثلاث عناوين كبيرة هي العوائق التي تواجه الحميمية، والخوف من الحميمية، والحميمية المزيفة أو الكاذبة.
لسوء الحظ فإن الغالبية العظمى منا لا تستطيع الدخول في علاقات حميمة بسرعه، ويظل قرار الدخول في العلاقة الحميمة ليس قراراً سهلاً أو مبهجاً لهذه الغالبية بل يعتبرونه بمثابة "توريطه"، فالعلاقة الحميمة عندنا هي أغرب مسرحية قدمت على خشبة المسرح، وفصولها الثلاثة مدتها قصيرة جداً، أما معظم نسيجها الفني أو ما يستنفذ وقتها فهي الدقات الثلاث الشهيرة ثم ترفع الستار، هذا هو كل ما يستهلك جهد الفنيين وطاقة الممثلين وتركيز الجمهور، لكن ما هي الأسباب التي تجعل من الصعب علينا أن نبدأ أو أن نحافظ على العلاقة الحميمة، وما هي هذه العوائق؟، سنحاول تلخيصها فى النقاط الست التالية:

1-الخجل:
أول مسمار فى نعش الحميمية هو الخجل، الخجل الذى يجعل المحب منعزلاً فى برجه العاجي الضيق، متجنباً التفاعل الإجتماعي، فهو في منطقة عسكرية مغلقة، مغروس فيها لافتة "ممنوع الإقتراب والتصوير".
والتناقض الفظيع الذى لا يستطيع حله الخجول هو أنه يتحرق شوقاً للعلاقات الحميمة، ولكنه لا يستطيع أن يأخذ المبادرة أو يتحمل المخاطرة، أو يتغلب على هذا الوحش الداخلي الرقيق والمهذب!، إنه يريد أن يحب بالريموت كنترول، والحب والحميمية والتلاحم الوجداني لا يمقت شيئاً مثلما يمقت الريموت كنترول.

2- العدوانيه:
عندما تتصرف بعدوانية ستجعل الجميع ينفض من حولك وستجبر الآخر على أخذ موقف الدفاع، ستكون كالقط حين يتنمر ويقوس ظهره وتنتصب شعيراته، حينها سيتجنبك الرفيق حتى لا تصيبه خربشاتك، ولذلك فلا بد من تخفيف نبرة العدوانية في أوركسترا الحميمية حتى يحدث الهارمونى والإنسجام.

3- الإهتمام بالذات:
"مركز الكون يبدأ من هنا حيث أوجد وأتنفس"، عندما يقول إنسان هذه الجملة متمركزاً حول ذاته، إذن فهو يباعد نفسه عن إقامة علاقات حميمة بمسافة تقدر بالسنوات الضوئية.
هنا توجد نقطة هامة للتفرقة ما بين الإهتمام بالذات والأنانية التي سنتحدث عنها فى النقطة التالية، فالإهتمام بالذات ليس فيه أي تعمد للأذى بل هو نتيجة لا مبالاة، وهذا السلوك يخلق فرداً يعشق المونولوج ويتحدث وكأنه يخطب فى "غيط كرنب "، إنه يندفع فى الكلام ولا ينتظر رداً، الأسئلة والإجابات في فمه وعلى لسانه هو فقط، إنه لا يحقق ما يريده محبوبه إلا فى حالة واحدة فقط وهي التطابق والتوافق مع ما يريده هو فقط.

4- الأنانية:
هنا دخلنا في منطقة أكثر عمقاً وألماً من المنطقة السابقة، هي أكثر عمقاً لأن درجة حب الذات فيها أكثر، وهي أكثر ألماً لأن الأنانى يدمر العلاقة بإرادته ومزاجه، إنه يخطط ويضع تكتيكات وإستراتيجيات للسيطرة على الآخر لحسابه ولا يهمه كيف تتطور العلاقة أو تتحسن الحميمية، ولكن ما يهمه هو كيف يستفيد من الطرف الآخر، إنه كالفيروس الذى يسيطر على الخلية ويأمر نواتها بأن تصنع له الغذاء والكيان والحياه على حساب حياتها ووجودها، فنفخ الروح فيه لا بد أن يكون من جثث الآخرين.

5- فقدان التعاطف:
الشخص الذى لايستطيع قبول وفهم وجهات نظر أخرى أو أفكار ومشاعر أخرى، يحتاج إلى وقت طويل وجهد عظيم لكي ينشئ علاقة حميمة، مثل هؤلاء الأشخاص دوماً يضعون القطن في آذانهم ولو كانوا يملكون الجرأة التي تمكنهم من قطع العصب الثامن.. عصب السمع لفعلوا، إنهم يضعون المتاريس أمام أقوال الطرف الآخر، وهم أفشل "بوسطجيه" على وجه الأرض، لا يستقبلون أي رسالة وبالتالى لا يستطيعون إرسالها، وجوههم كوجوه لاعبى البريدج حين تأخذهم سخونة اللعب، أناملهم باردة كأنامل سكان سيبيريا، قلوبهم لا تنبض كجثث المشرحه!

6- التوقعات غير الحقيقية:
الصراع بين الواقع والخيال، جملة طالما سمعناها من الكتاب والنقاد الكبار خاصة على شاشة التليفزيون، فهي أسهل الحلول للهرب من أي سؤال، ولكنها بالنسبة للعلاقات الحميمة أصعب المشاكل التي تواجهها، فالشخص الذى ينظر إلى العلاقة بمثالية وينتظر من الآخر المستحيل يقع فى هوة الإحباط، ومن الممكن جداً أن يقلع عن الإستمرار في هذه العلاقة، فحينما يدخل طرف العلاقة منتظراً من الآخر الصحبة والتسلية، بينما يتوقع الآخر منه تواصلاً فلسفياً وذكاء ألمعياً، يصبح الأمر كمن أعطى ميعاداً لشخص في شبرا فذهب إليه عن طريق حلوان !.


من يخاف لا يستطيع أن يبدأ، ومن لا يستطيع أن يبدأ فهو بالقطع لا يستطيع أن يبني، هذه أولى المشاكل التي تواجه الحميمية، فالخائف من إقامة علاقة حميمة شخص عديم الثقة، خائف على الدوام من الرفض، وأيضاً من فقدان السيطرة على محبوبه وعلى نفسه.
هذا الخائف دائماً المرتعش طول الوقت يرى نفسه في مرآة مشروخة، عنده إقتناع راسخ بصورته السلبية بأنه ليست له قيمة، والسؤال الخالد الذى يطرحه هذا الشخص على نفسه دائماً هو لماذا يهتم بي الآخرون إذا كنت أنا لا أستحق الإهتمام أصلاً؟، ويكون الرد على كل إحساس جميل يقدمه الأخرون له "مش معقول"... "مش ممكن"، هذا المش معقول والمش ممكن هما وصف لهذا الإحساس ولصاحب هذا الإحساس وذات الشخص نفسه.
إنه كما قلنا غير واثق، وخائف من الرفض نتيجة لإنعدام هذه الثقة، ولذلك فإنه يتجنب الخوض فى أمواج هذه العلاقات الحميمة، ويفضل دائماً أن يسبح على الشاطئ في علاقات سطحية إيثاراً للسلامة حتى لا يتعرض لمخاطر الإلتزام الثقيل على القلب والسباحة المجهدة للبدن، وهو يصل إلى حل غريب جداً، فلكي يتجنب الأذى لا بد له من أن ينعزل عاطفياً، إنه يدخل "الحجر الصحي" بملء إرادته خوفاً من إنفلونزا الحميمية الآسيوية، بل إن بعضهم يصنع مفتاح ال VOLUME الذي يصنع للتليفزيون لكي يتمكن من ضبط سيطرته على العلاقة في أي وقت، وإذا زادت الحميمية وتطور القرب، نجد هؤلاء مترددين ويحاولون الهرب إما بالإنغماس في العمل، أو تغيير دفة الأحاديث والعلاقة إلى ناحية أخرى، إنهم يحاولون معادلة العلاقة الحمضية بأي سائل حتى تهدأ مخاوفهم، ويحافظون عليها تحت السيطرة.

كتبت الطبيبة النفسية الشهيرة "كابلان" عن هذا الخوف قائلة:
"الطرفان يشتاقان إلى القرب الحميم ولكن عندما يصلان إلى نقطة القرب هذه يصيبهما القلق، ولذلك سيبادر طرف منهما بوضع مسافة حين تطول أو تبعد تحدث الراحة، وحين تقصر أو تقرب يحدث القلق، إنهما سيتحركان بالضبط مثل أرجوحة الميزان التي يستعملها الأطفال، طفل يعلو وطفل يهبط إلى أن يضبط المسافة المناسبة التي تحدث التوازن المطلوب".
هذا الخوف من العلاقات الحميمة للأسف فى بعض الأحيان يظل طوال العمر، وهنا قد تعكس حادثة فى الطفولة - خاصة فى العلاقة مع الأبوين - تأثيراً على العلاقة، وبالطبع تكون هذه الحادثة مؤلمة، ولكن لحسن الحظ معظم حالات الخوف من الحميمية مؤقت، ومن الممكن أن يذوب بمجهود من الطرفين.

 


الحميمية المزيفة
الحميمية كالدولار من الممكن - بل من المغرى - أن تزيف، ومن السهل تزويرها بحيث لا يكتشفها أكبر خبراء المعمل الجنائى للعلاقات العاطفية، ولكي نستطيع التفرقة بين الحميمية الصادقة والحقيقية، وبين الحميمية المزيفة علينا أن نقرأ هذه النقاط التي وجه أنظارنا إليها علماء النفس فيما يخص الحميمية المزيفة:

· يستمع الشخص حقاً إلى إحتياجات الطرف الآخر، لكن بدون أن يتقدم خطوة فى سبيل تحمل مسئولية تلبية هذه الإحتياجات.
· توجد هوة شاسعة بين ما يقال وما يفعل.
· الثقة المتبادلة مفقودة فيما بين الطرفين.
· الإلتزام من جانب واحد فقط أو ما نصفه بأنه إلتزام خادع
· يتصرف طرف بطريقة أنانية، أو على الأقل لا يبدى إهتماماً بأن يعطى أو يمنح.
· التواصل أحادى الجانب، يأخذ شكل المونولوج وليس الديالوج.
· العلاقة بينهما عبارة عن أوامر وإنتقادات لعدم تنفيذ أو إتباع هذه الأوامر.
· تستنفذ الصراعات والطموحات المدمرة الوقت والجهد حتى تتقلص المساحة المتاحة لأي قرب أو تواصل.

مقابلة مع الدكتور خالد منتصر على قناة الجزيرة - 2009/11/8

 

مقالات شبيهة

الاختفاء في العلاقات العاطفية.. حين يتحول الأحباء إلى أشباح
الاختفاء في العلاقات العاطفية.. حين يتحول الأحباء إلى أشباح
المزيد ...