مقالات
فرض عين.. شَرَك الأمومة القسرية الذي يبتلع النساء
2024-11-10"من الرابع للتاسع البيبي عايش جوايا وأنا عارفة أنه هيتوفى ودي كانت حاجة مؤلمة جدًا وصعبة جدا".
تروي نهلة السيد * (36 عامًا) تجربة حملها الأولى التي انتهت بوفاة طفلها بعد ربع ساعة فقط من ولادته، وذلك بعد رفض الأطباء - وكذلك أسرتها- إجهاض الحمل رغم علمهم المسبق بوفاته الحتمية.
بعد شهر من الزواج، بدأت الأنظار تتجه نحو بطن نهلة، متبوعة بالحث على البدء بالتفكير في الإنجاب ودعوات الحمل الذي لم تكن مستعدة له في ذلك الوقت. إلا أنه بعد الضغط المستمر من قبل أمها، بالأخص، وباقي أفراد أسرتها حملت في طفلها الأول، الذي لم تكتشفه إلا بعد أربعة أشهر، ليؤكد لها الأطباء أن الطفل يحمل "عيبًا تخليقيًا" ولا يوجد أي احتمال لنجاته.
مع ذلك، رفض الأطباء إجراء عملية الإجهاض رغم تشكل لجنة لدراسة حالة الجنين والتي أكدت حتمية الوفاة أو العيش دون حركة لمدة 6 أشهر على أقصى تقدير.
"5 شهور من الضغط النفسي والعصبي والتروما، وأنا كنت أكتر حد متأثر طبعًا، لأن أنا اللي شايلة البيبي جوايا وبيبلعب جوه وأنا عارفة أنه هيتوفى".
هكذا تروي نهلة، التي مرت بأزمة نفسية بعد الولادة جعلتها عازفة عن الاختلاط بالبشر، وآثرت الانغماس في العمل في محاولة لإلهاء نفسها عن الألم النفسي والجسدي الذي عانته.
لمدة عامين ونصف، لم تستطع التعافي من هذه التجربة الأليمة، إلا أن التوقعات الأسرية حاصرتها مرة أخرى مطالبة إياها بالتجاوز والتفكير في الإنجاب مرة أخرى.
"انتي هتوقفي حياتك على كده؟ مش هتجيبي أطفال تاني؟"
كانت العبارة تُقال في الوقت الذي كانت خلاله في أمس الحاجة للدعم النفسي بدلًا من الضغط عليها لتكرار التجربة.
"هما عاشوا إيه ولا يعرفوا إيه عن اللي أنا عشته ده عشان يضغطوا ع الواحد إنه يحمل بسرعة؟"
الحتمية البيولوجية
منذ نعومة أظافرهن، يُزرَع مفهوم الأمومة في الفتيات من خلال تشجيعهن على اللعب بالدمى والاعتناء بها حتى قبل أن تصبح أجسادهن قادرة بيولوجًيا عليها. ذلك ما ترمي إليه دراسة نشرتها جامعة بيتسبرغ بعنوان "نفاق الأمومة القسرية (The Hypocrisy of compulsory motherhood)".
تشير الدراسة إلى أن كل هذه المحادثات التي تلاحق النساء حول الإنجاب وعدد الأطفال تنطوي على فرضية خفية بأن جميع النساء يجب أن ينجبن، وبالتالي يتوقع المجتمع من كل جسد أنثوي الإنجاب، فيما يُعرَف بالأمومة القسرية (compulsory motherhood) التي في ظلها يُختَزَل الجسد الأنثوي وموضوعه فقط في الدور الإنجابي.
ويعكس مفهوم الأمومة القسرية أن المرأة ليست وحدها من تقرر أنها ترغب في الأمومة، بل أن "أي شخص وكل شخص لديه رأي بشأن اختيارها للأمومة"، بالرغم من أن المرأة وحدها هي التي تتحمل عواقب الأمومة وعبئها، وفقًا للدراسة.
تتفق نهلة مع هذا الرأي، مؤكدة أن التوقعات المجتمعية بحتمية الإنجاب غير منطقية، "المجتمع دائمًا متوقع منك إنك لازم تخلفي. لأ يا جماعة مش كل الناس لازم تخلف"، إذ يجب أن يكون الإنجاب قرارًا واعيًا من طرفين على دراية بما يترتب على هذه الخطوة، "مش قرار بييجي بضغط ولا عشان يبان إن انتي بتخلفي أو إن انتي منقوصة أو معيوبة لحد ما تخلفي"، تقول نهلة، مؤكدة على أن أيًا ممن ألحوا عليها للإنجاب لم يشاركوها أي تجارب أو خبرات تخص الحمل والولادة ورعاية الأطفال.
الوجه الآخر للـ"تارجت"
مثلما حدث مع نهلة، مرت شذى رفعت * (29 عامًا)، بتجربة شبيهة، إذ بدأ الضغط عليها للإنجاب أيضًا بعد شهر من زواجها، مع الإلحاح على ضرورة زيارة الطبيب/ة للاطمئنان على صحتها الإنجابية.
"ليه مفيش بيبي لحد دلوقتي؟ المشكلة عند مين فيكم؟" حاصرتها هذه التساؤلات مضافًا إليها المقارنات بمن تزوجن في نفس الفترة معها "وكأن الخلفة تارجت (هدف) لازم أحققه".
عامان كاملان لم تخل خلالهما أي زيارة أو مكالمة من الحديث عن الحمل الذي تحول من مجرد السؤال إلى صيغة "شفقة" من قبيل الدعوات بـ"العوض" أو "الخلفة"، حتى باتت نساء العائلة يخفين حملهن عنها "وكأني هحسد إنجازهن العظيم" بحسب وصفها. إلى أن فوجئت في إحدى زياراتها لوالدتها -التي تعيش في محافظة أخرى- بأنها قد حددت لها موعدًا مع طبيب النساء لكي تطمئن العائلة وتقرر "الخطوة التالية".
في مقالها المنشور عام 2012، "الأمومة القسرية: جسد الأنثى الإنجابي كما تنظمه الدولة؟"، تشير الباحثة الروسية تاتيانا شكوركو إلى أن عادة ما تضاف صبغة رومانسية إلى الأمومة من أجل شرعنة مفهومها "المعياري"، بتقديم خطاب مثالي حول الجوانب الإيجابية للأمومة وتجاهل مشاكلها على الناحية الأخرى.
بالتالي تفاجأ الأم بعد الولادة بالوجه الآخر للأمومة، كما حدث مع شذى التي أنجبت طفلها بعد الضغط النفسي والابتزاز العاطفي "المغلف بحب مشروط"، دون أن تجد السعادة التي صُوِّرت لها، فقد زارها الاكتئاب في أشهر الحمل الأخيرة، واستمر لما بعد الولادة.
"كنت كارهة حياتي واكتشفت إن موضوع الخلفة كان بيسوقه حد غيري"، تروي مضيفة أنها أضحت محاطة حينها بالتوبيخ وتأنيب الضمير لعدم قدرتها على إرضاع صغيرها أو الاهتمام به، "أمي اللي كانت أول واحدة عايزاني أخلف قالت لي وقتها اللي عملك أُمّ ظلمك!" لتعود إلى بيتها بعد 22 يومًا فقط من الولادة القيصرية، لتجنب "اللوم والكلام المؤذي".
وبفضل العلاج النفسي مع متخصص، تمكنت شذى من تجاوز هذه المحنة وأصبحت قادرة على حب ابنها، وكسر دوائر الأذى المحيطة بها، التي ما زالت تضغط عليها لإنجاب الطفل الثاني.
لكن نهلة لم تحظ بنفس الفرصة في التعافي والعلاج النفسي، فبعد عامين ونصف من الضغط ومطالبتها بالحمل مرة ثانية بعد إجراء التحاليل اللازمة، اضطرت إلى اللجوء لمنشطات التبويض -الذي تأثر بعد تجربتها الأولى- لتحمل في ثلاثة توائم، وتضطر لاستئصال أحد الأجنة والإبقاء على اثنين فقط، هما ابنتاها ذاتا الأربع سنوات الآن، لكنها لم تكن تجربة سهلة أو ممتعة على الإطلاق، لخوفها طوال فترة الحمل من تكرار "المأساة" الأولى بحسبها.
فرض عين
قبل الزواج، كانت علياء صلاح* (مهندسة) تميل إلى اللا إنجابية، لكن طليقها الحالي كان يرغب في الإنجاب. عرضت عليه (الاحتضان)، لتوافق على الإنجاب بعد ضغط، ولكن على شرط أن تمر ثلاث سنوات لتستقر ماديًا ونفسيًا استعدادًا لهذه الخطوة.
بعد ستة أشهر فقط من الزواج، خَلَف الزوج الاتفاق مطالبًا إياها بوقف وسيلة منع الحمل. ولم يقتصر الأمر على "الخناقات والنكد"، بل لجأ كذلك إلى أسرته التي لم تكتف بتوبيخها لتجاوزها ثلاثين عامًا و"تراجع قدرتها الإنجابية"، بل حتى التدخل في حياتها الجنسية مع زوجها وموعد دورتها الشهرية، "كان فيه اقتحام لخصوصيتي بشكل بشع وكنت حاسة طول الوقت إني متراقبة".
لم يتوقف الضغط عليها حتى أجرت التحاليل التي أثبتت أن تأخر الإنجاب كان بسبب مشكلة طبية لدى زوجها الذي بدأ في الإلحاح عليها لإجراء حقن مجهري. حدث الحمل مصادفة لكنه لم يكتمل بسبب مشكلة الزوج، فتعرضت علياء لنزيف بعد الأسبوع الثامن واستمر لمدة ثلاثة أشهر بسبب إصابتها بلحمية الرحم (endometrial polyp).
"كانت تروما فظيعة" كما تصفها علياء التي استمر زوجها في الضغط عليها للحمل مرة أخرى، في الوقت الذي لم يكن هو منتظمًا في علاج مشكلته. ذلك أن المجتمع غالبًا ما يحمل المرأة وحدها مسؤولية الحمل أو عدمه، حتى باتت تشعر بأن زوجها يقيم معها علاقة جنسية فقط من أجل الإنجاب، "وده شئ حقير ومؤذي جدًا"، لتحمل بعد سنة تقريبًا وتتعرض لإجهاض آخر "مرير".
بعد الإجهاض الثاني اتهمها زوجها بأنها أجهضت الجنين عن عمد لأنها لم تكن ترغب في الإنجاب. بل بات يصمها بأنها ليست امرأة بالمعنى "الحقيقي" لأنها تفتقر إلى "فطرة الأمومة" كباقي النساء، مستغلًا تصريحها بعدم الرغبة في الإنجاب، لدرجة فقدان التعاطف معها واتهامها بعدم الحزن على طفلها المفقود.
بحسب دراسة جامعة بيتسبرغ، فافتراض أن المرأة يجب أن تنجب أطفالًا لمجرد أنها تستطيع ينتقص من قيمة المرأة ثقافيًا، ويعزل النساء اللواتي لا يرغبن واللاتي لا يستطعن الإنجاب، ما يجعله افتراضًا "خانقًا ومرهقًا ومنافقًا".
الإنجاب هو أحد القوالب النمطية التي يفرضها المجتمع على النساء، والتي يجري ترسيخها في أذهانهن على أنها "غريزة" أو "فطرة" طبيعية للمرأة، فتصبح النساء اللاتي لم ينجبن -سواء برغبتهن أو لأسباب مختلفة- معيبات أو غير مكتملات في نظر المجتمع. وبالتالي تقع العديد من النساء في شراك الأمومة القسرية دون إرادتهن الحرة، فقط لإتمام صورتهن المجتمعية والفوز بالقبول المجتمعي.
(*) أسماء مستعارة بناء على طلب المصادر