جرائم الشرف بعدسة إسلامية معادية للاستعمار

2024-11-10

بقلم : موسى شديدي

عام 2011 وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي قائلًا "في منطقة ترجم النساء، وتشنق المثليين، وتعدم المسيحيين، تقف إسرائيل المختلفة". رابطًا بين الإسلام من خلال ذكر حد الرجم وعملية قتل النساء أو ما يعرف بـ "جرائم الشرف"، كحجة سياسية يهدف من خلال طرحها إلى حصد دعم السياسيين الأمريكيين لإسرائيل وعرقلة دعم "الدول المسلمة" في الشرق الأوسط من خلال دغدغة مخيلتهم الاستشراقية. في هذا المقال سأحاول الإجابة على كيفية استخدام التعاطف مع ضحايا "الشرف" في تبرير إبادة عشرات الآلاف من النساء الأخريات؟


الخلفية التاريخية



ربط جرائم الشرف بالإسلام رأي استشراقي تردد صداه كثيرًا في أقوال العديد من أعداء الإسلام حول العالم، وتحديدًا أولئك الداعمين لليمين الأوروبي والأمريكي المعادي للإسلام والمهاجرين والداعم للصهيونية. نجد الكاتبة الصومالية إيان هرسي علي التي هاجرت إلى هولندا وانضمت إلى حزب هولندي يميني، غالبًا ما تربط بين المجتمعات المسلمة وجرائم الشرف كطريقة للتحريض ضد المسلمين المهاجرين في هولندا.

أما في الولايات المتحدة هناك بريجيت غابريال المسيحية الصهيونية من أصل لبناني، التي بنت مسيرتها المهنية على كراهية الإسلام. استضافها بيل مار الإعلامي الأمريكي الكاره للإسلام هو الآخر عام 2009 في إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني لتعلق على جريمة قتل صاحب محطة تلفزيونية أمريكي مسلم لزوجته، قالت بريجيت إن القاتل "اتصل بالشرطة متفاخرًا بقتل زوجته" لتظهر الأمر وكأنه جريمة شرف ارتكبها مسلم بسبب ديانته، وهو ما لم يحدث في الواقع بل فبركته ليبدو كذلك.

لخص جوزيف مسعد في كتابه "اشتهاء العرب" الهوس الغربي بجرائم "الشرف" مقابل تجاهله لنفس الجرائم التي ترتكب في الغرب قائلًا "بينما كان الغرب قبل الحداثة يهاجم العالم الإسلام بسبب تهتكه الجنسي المزعوم، فقد راح الغرب الحديث يهاجم قمعه المزعوم للحريات الجنسية. وعلى سبيل المثال، نجد أن الرعب من جرائم الشرف، التي تحصد أرواح ربع القتيلات في الأردن، سوف يتجسد في تقارير خاصة على شبكات التلفزيون الأمريكية والكتب الرائجة التي يضعها مخبرون محليون مزعومون. مع أن هذه الشبكات الأمريكية ذاتها لا تخصص أية برامج تلفزيونية لاستقصاء حقيقة أن ثلث القتيلات في الولايات المتحدة، على الأقل، قد قتلن بأيدي عشاقهن أو أزواجهن". (مسعد، 2014، 66)


على الرغم من ذلك تتمسك غالبية النسويات المحليات خصوصًا العاملات في جمعيات نسوية ممولة من قبل الحكومات الغربية بتسمية جرائم "الشرف" ويعترضن بشراسة على الأفكار المعادية للاستعمار التي تتهم هذا المصطلح/المفهوم والخطاب المصاحب له بالعنصرية في تمييز نفس الجرائم بحسب لون بشرة ودين مرتكبها لتكون خارج العالم الإسلامي جرائم شغف أو عنفًا منزليًا يمكن التسامح معه والتغاضي عنه طالما كان مرتكبها أبيض البشرة وغير مسلم، بينما إن تمت على يد شخص مسلم أو من "الشرق الأوسط" تتحول تلقائيًا إلى جريمة "شرف" يسلط عليها الضوء لأهداف سياسية معادية للإسلام والمسلمين. وهذا أحد أسباب اتهام أصحاب نظرية ما بعد الاستعمار للنسوية بمساندتها الخطاب الاستعماري من خلال لومها للثقافة المحلية الإسلامية بدل فهم المسببات الاستعمارية لتلك الجرائم.
 

الثقافة الإسلامية


كمحصلة سياسية على أرض الواقع وعلى مستوى التطبيق، احتوى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حماية الأمة من دخول الإرهابيين الأجانب إلى الولايات المتحدة المسمى سياسيًا حظر المسلمين عام 2017 "عرض جرائم قتل النساء على يد أفراد الأسرة الذكور بسبب الطيش الجنسي المتصور باعتبارها سمة خالدة للثقافة والقانون الإسلامي". وهذا ما يدفعنا للتساؤل، كيف ينظر الإسلام حقا لـ"جرائم الشرف"؟

جرائم الشرف في الإسلام



قال الله تعالى في القرآن الكريم "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا"  (النساء، 93) كما قال رسوله "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" أي أن الله يبدأ الحساب يوم القيامة بمن قتل إنسانًا في الدنيا، وقال "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدًا" وقال "من قتل مؤمنًا متعمدًا فقد كفر بالله".

غير أن جرائم "الشرف" تتناقض مع صريح نص القرآن الكريم والسنة، فللزنا (أي ممارسة الجنس الفرجي بين رجل وامرأة خارج إطار الزواج) حد (عقوبة محددة في الشريعة) لا يحق لغير القاضي تنفيذه وله شروط، أهمها توفر أربعة شهود كما قال الله تعالى في القرآن الكريم "لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ" (النور، 13) على الشهود أن يشهدوا الإيلاج "كالميل في المكحلة والرشاء (الحبل) في البئر" يقصد رؤية الإيلاج في الممارسة الجنسية بأعينهم بحسب التعبير الشرعي. وصعوبة تحقيق هذه الشروط هو ما جعل التاريخ الإسلامي شبه خال من تنفيذ هذه العقوبة، وهو ما يثير غضب أحد أهم رموز العلمانية فرج فودة المحامي المصري الذي اتهم الشريعة بعجزها عن معاقبة الجنس خارج الزواج في كتابه الحقيقة الغائبة وأثنى على قوانين الاستعمار المتشددة والكابتة للجنس ووصفها بأنها تطول "ما لا يطوله اجتهادكم القاصر" (فودة، 1988، 122) موبخًا الإسلاميين، وهو محق في هذا فقوانين الاستعمار تحرض الرجال على قتل النساء دون عقاب بينما تعاقب الشريعة الفاعل بالموت، فالفرق شاسع حقًا بينهما.


فلا يحق للرجل إذا وجد زوجته مع رجل آخر في فراشه قتلها في الإسلام، لما سأل صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم  "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَؤُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ". (صحيح مسلم) ما دعا لإصدار فتاوى عديدة تحرم ما يعرف بـ"جرائم الشرف" من بينها فتوى دار الإفتاء الأردني وغيرها، بل على العكس يحرم عليه حتى لو شاهدها مع رجل في فراشه أن يتهمها بذلك علانية إن لم يكن معه ثلاثة شهود يثبتون قوله وإلا وقعت عليه هو عقوبة القذف، وهي بحكم القرآن ثمانون جلدة كما قال الله تعالى "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور، 4).

 

آيات القرآن

لكن إن كان الإسلام يحرم جرائم الشرف بهذا الوضوح، من أين جاءت كل القوانين التي تخفف عقوبة الرجل الذي يقتل زوجته المتلبسة بالزنا في سورة غضب، وفق المادة 340 في الأردن، والمادة 153 في الكويت، والمادة 548 في سوريا، والمادة 237 في مصر، والمادة 240 في المغرب، والمادة 232 في اليمن، والمادة 409 في العراق، والمادة 242 في السودان والمادة 375 في ليبيا والمادة 252 في عمان والمادة 279 في الجزائر والمادة 334 في الإمارات العربية المتحدة؟

يبدو أن هذه المواد القانونية كانت قد اشتقت من المادة 324 من قانون العقوبات الذي سنه نابليون عام 1810، (مسعد، 2018، 210) ومن المادة 188 من القانون العثماني الصادر عام 1858 والمقتبس بدوره من قانون نابليون بهدف تغريب القضاء العثماني و"تحديثه"، وهو القانون العلماني الأول في تاريخ الخلافات الإسلامية الذي يستغني عن الشهود الأربعة، ويستبدل غالبية المفاهيم الإسلامية بمفاهيم غربية علمانية، تذكر الباحثة مولي بانجز من مؤسسة القرن البحثية أن "هناك العديد من أوجه التشابه بين الأنظمة القانونية في دول الشرق الأوسط التي خضعت للتعديل مع سقوط الإمبراطورية العثمانية وموجات الاستقلال في النصف الأخير من القرن العشرين، معظمها يقلد القانون المدني المصري لعام 1942 -الذي وضعه الفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري بمساعدة الأستاذ الفرنسي الدكتور إدوارد لامبرت– المستمد بشكل كبير من القانون المدني الفرنسي". كما وكلف الاستعمار البريطاني في الكويت السنهوري لقيادة لجنة قضائية مكلفة بإصلاح الإطار التشريعي في الكويت. وهو ما جعل أفكاره القانونية ومن بينها تخفيف عقوبة "جرائم الشرف" ذات تأثير كبير على قوانين دول المنطقة كالعراق وسوريا وليبيا وقطر.


كما قامت المؤرخة ليات كوزما في كتابها "ضبط المرأة المصرية" بدراسة سجلات الشرطة المصرية في القرن التاسع عشر في الأرشيف الوطني المصري، والتي تثبت أن جرائم الشرف لم تكن شائعة (أو لم يتم الإبلاغ عنها) في مصر قبل الاستعمار البريطاني، وفي حالة حدوثها، كما حدث في قضية مقتل فتاة تدعى سارية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1865، يحاكم القاتل كمجرم ارتكب جريمة قتل، دون تخفيف عقوبته.

ويا له من أمر ذكي أن يعتمد مشروع الغرب الإمبريالي في الحاضر على القانون الاستعماري الذي غرسه في الماضي. إن هذا القانون يؤدي دورًا جوهريًا في تحديد سمات الدولة الاستعمارية المنشأ وقوانينها في السعي لإنتاج مواطن خاضع جنسيًا للدولة، بعكس الإسلام الذي لا خضوع فيه لغير الله، كما يبين مقدار إلهام هذا القانون الاستعماري في خلق ظاهرة إجرامية في المجتمع الذي يقونن فيه، بعد أن كانت الشريعة التي اختار الناس التمسك بها قادرة على الحد من تلك الجرائم.


أبو غريب



المستهجن أن الغرب الذي يلوم الإسلام على جرائم "الشرف" قد حرض في مشروعه لاستعماري في بلادنا الجرائم المرتبطة به لصالحه إلى أبعد حد، في العراق عام 2003 في سجن أبو غريب قال أحد المعتقلين لصحيفة نيويورك تايمز "بدا وكأن كل جندي كان يحمل معه كاميرا" مستطردًا "اعتادوا إحضار الصور لنا وتهديدنا بإرسالها إلى عائلاتنا"، ترسيخًا لمفهوم الفضيحة والشرف الذي كان استخدامه كوسيلة تعذيب جزءًا من خطة القيادة الامريكية العليا في احتلال العراق، كما تذكر التقارير الحقوقية أن أعداد النساء اللاتي تعرضن للتعذيب الجنسي من قبل الجنود الأمريكيين في سجن أبو غريب أكثر بكثير من عدد الرجال، وأطلق جيش الاحتلال بعضهن من السجن وهن حبالى، وهو ما تسبب بقتلهن من قبل رجال عائلاتهن.

 

مسجد

يوضح هذا المثال تداخل الجنسي والاستعماري بأبشع صوره. بمعنى أن التعذيب كان مصممًا بطريقة يتم فيها التأكد من كسر نفس العائلة بأكملها وتحريضها نحو ارتكاب جريمة "شرف" كجزء من إعادة صياغة المجتمع العراقي الجديد خلال فترة الاحتلال.

وهو أسلوب استعماري استخدمته دولة الاحتلال الصهيوني كذلك، نجد المناضلة الفلسطينية رسمية عودة التي حكمت محكمة الاحتلال عليها بالسجن المؤبد عام 1970 وحررت بعد عشر سنوات في عملية تبادل أسرى، تروي قصة تعذيبها الجنسي على يد الصهاينة الذين حاولوا إجبار والدها وخطيبها إلى جانب معتقلين غرباء على اغتصابها في المعتقل، تقول "هذا الأسلوب كانوا يستعملوه كورقة من أجل أنهم يحطوا حد لمشاركة المرأة في مقاومة الاحتلال لأنه جانب الشرف والدين هي قضايا كتير حساسة في مجتمعنا، وطبعًا إذا الناس سمعوا هذا النوع من التعذيب رح يمنعوا بناتهم يشاركوا بأي شكل من أشكال النضال، يحبسوهم بالبيوت، الأب بده يحبس بنته والزوج بده يحبس زوجته والأخ بده يحبس أخته". أي أن الصهاينة حاولوا جعل المجتمع الفلسطيني أكثر تمحورًا حول الشرف أملًا أن يقتل أو على الأقل يحبس الرجال نساءهم لمصلحة الصهاينة.

 

كما نجد تغريدة للناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي عام 2018 على إثر مشاركة النساء الغزيات في مسيرات العودة يتهمن فيها بأنهن "عديمات الشرف ومسترجلات"، وهو ما يوضح لنا الاستخدامات السياسية لمفهوم الشرف بشكل استعماري تحريضي. فهي أداة تحول الرجال إلى سلطة تنفيذية لإرادة المستعمر بدلًا عنه، تعدم من يخالف أمره، وتخلق نزاعًا دمويًا بين المستعمرين والمستعمرات، يصفه العلامة علي شريعتي في كتابه النباهة والاستحمار "حرب كاذبة، افتتاح جبهة فرعية بين المرأة والرجل، لماذا؟ ليغفلوا عن الجبهة الأصلية بين الشرق والغرب".
 

المؤسف أن المجتمع ابتلع هذا الطعم، وترك أخلاقه الإسلامية وتمسك بالأخلاق الاستعمارية القمعية، وهو ما قد يفسره قول ابن خلدون في تقليد المغلوب للغالب، ومن جهة أخرى تخلى الخطاب النسوي المحلي السائد عن تاريخنا ومفاهيمنا الإسلامية ولم يحاول طرحها كمركز لحل هذه الظاهرة الإجرامية بل حاول استيراد مفاهيم وأدوات غربية لم يتقبلها المجتمع ولم تتغلغل في نسيجه الثقافي لأنه مجتمع مصاب بصدمة نفسية من كل ما هو غربي ويحق له ذلك بعد مروره بما ذكرناه أعلاه. كما أن هذه المفاهيم الغربية تعاني من تجاهل للسياق الثقافي والتاريخي الذي أنتج تلك الظاهرة الإجرامية، بالتالي هي غير قادرة على تفسيرها أو علاجها. وتبقى خطورة هذه الأدوات الاستعمارية كامنة في تشويه الذاكرة الجمعية لمن وقع على ذاكرته الاستعمار، فيحارب من أجل القانون الاستعماري معتقدًا أنه يمثل الشريعة.

المراجع


جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، ت. إيهاب عبد الحميد، القاهرة: دار الشروق، 2014.

جوزيف مسعد، الإسلام في الليبرالية، ترجمة أبو العباس إبراهيم وجوزيف مسعد، بيروت: جداول، 2018.
فرج فودة، الحقيقة الغائبة، القاهرة: دار الفكر، 1988.
عرب لطفي، مرآة جميلة، 1993.

مقالات شبيهة

المرأة والجندر : الغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين
المرأة والجندر : الغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين
المزيد ...