لا نولد ذكوريين/ات.. بل نصبح كذلك
في فيلم "إشاعة حب"، يسأل الأب (يوسف وهبي) ابنته سميحة (سعاد حسني)، التي رجعت للتو من السفر، "مين دي يا سميحة واحدة صاحبتك؟" تتعجب سميحة قائلة بأن صديقتها ما هي إلا ابن خالتها، وهو "ولد" يدعى لوسي، وليس فتاة. لكن الأب لا يقتنع كثيرًا بذكورة لوسي، خاصةً عندما يعرف أنه حاصل على ماجستير في الرقص. وعلى الرغم من أن لوسي ماهر في عدة لغات، ويملك الكثير من الخبرات الحياتية، لكن الذكر الذي يريده الأب لابنته، والذي سيحظى بقلب سميحة في نهاية الفيلم السعيدة، هو حسين أو عمر الشريف، لأنه "رجل حقيقي"، يمتلك وظيفة، ويعمل بكد، على عكس لوسي. مَن يريده الأب هو أيضًا رجل خشن، وقوي البنية، وليس "ناعمًا". بالتالي، إذا تخيلنا حياة لوسي في طفولته، وهو هكذا يتسم بالنعومة، وبصفات يراها المجتمع "أنثوية"، يمكن أن نتوقع كم التنمر الذي تعرض له من زملائه، لأنه ليس ذكرًا خشنًا بما يكفي.
السينما والدراما الأجنبية ليست استثناء في رسمها لصورة الرجل "الحقيقي" على الشاشة، عاكسة قيمًا وأفكارًا مجتمعية سائدة. نذكر مسلسل Big Bang Theory (نظرية بيج بانج) الذي يدور حول مجموعة من الأصدقاء الذكور المثقفين والمهووسين بالعلم، يتحدثون دائمًا عن نظريات آينشتاين، وأرشميدس، ويتباهون بمعدلات ذكائهم العالية، لكنهم خجولون، غير مفتولي العضلات، بعيدون عن الوسامة، ولا يعرفون كيف يُجرون حوارًا عاديًا مع أي فتاة. هؤلاء بالطبع هم الخاسرون في صراع الذكورة.
هذه صورة معتادة في الدراما؛ صورة البطل الوسيم، الرجل الحقيقي، الذي يحظى بالفتاة الجميلة في النهاية، وهي صورة تمثل شكلًا من أشكال الذكورة المهيمنة أو (hegemonic masculinity)، وهي بدورها شكل من أشكال الذكورة العديدة.
في مجتمعاتنا يهيمن الذكور على النساء بوجه عام، وهناك رجال يخضعون لفئة أخرى من الرجال الأقوى بفعل الطبقة، والموقع الاجتماعي، وامتلاك الثروة والسلطة. وهذه هي واحدة من الآليات التي يهيمن بها الرجال على النساء وعلى الرجال الأضعف. لذا ينبغي علينا الدخول إلى عالم الرجال لتفكيك فكرة الذكورة، كي نغير الأعراف الاجتماعية المتعلقة بالنوع الاجتماعي.
الهيمنة والخضوع
استخدمت عالمة الاجتماع رايوين كونيل مصطلح "الذكورة المهيمنة" Hegemonic masculinity لتشير إلى مجموعة الصفات التي يحددها المجتمع للـ "الرجل المهيمن" أو أفضل صورة ومكانة يكون عليها الذكر في المجتمع، وهي الصورة التي يمكن على أساسها تقييم الذكور في المجتمع.
فرَّقت كونيل بين أن تولد ذكرًا، وبين القالب الذي يوضع فيه الطفل منذ ولادته ليتصرف بالطريقة التي يراها المجتمع ملائمة للرجل، مثل ارتداء ألوان معينة والتصرف بخشونة وأن يكون مختلفًا عن النساء.
الذكورة بالنسبة لكونيل هي موقع الرجال في ترتيب الجنس، وتشبه هذه النظرية فكرة الهيمنة الثقافية التي تحدث عنها الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي؛ الذي رأى أن هيمنة أيديولوجية الطبقة الحاكمة أو سيطرة أفكارها وقيمها تحدث بفعل إجماع المجتمع عليها، وهو ما يجري عن طريق التنشئة الاجتماعية في المنزل، والمدارس، ووسائل الإعلام. وعلى نفس النسق ينشأ نمط من الذكورة يهيمن على الرجال والنساء، ويفرض معايير وأفكارًا محددة، تلك المعايير يوافق عليه المجتمع ككل ويتناقلها من جيل إلى جيل.
ولفهم هذه الهيمنة وفكرة ترتيب الذكور في المجتمع يمكن تخيل مكانة رجل شرطة بالمقارنة بمكانة متسول مثلًا. سيخضع المتسول إلى الشرطي حتى دون أن يمارس العنف، وهذا الترتيب منتج اجتماعي لا نولد به، بل يصنعه المجتمع.
وبالعودة إلى عمر الشريف بالفيلم فهو انعكاس لصورة الذكر الحقيقي في المجتمع، رجل قوي البنية، خشن ومجتهد في عمله، يعمل عملًا جادًا، وليس في صنعة متعارف على أنها نسائية مثل صنعة الرقص، تلك التي يجيدها لوسي الشاب الناعم الذي لا يثق المجتمع كثيرًا في رجولته.
ولكن إذا استطعنا مساءلة صفات البطل على الشاشة، ربما نستطيع تغييرها في الواقع.
صورة الذكر المثالي والرجل الحقيقي غير ثابتة، وديناميكية، وتختلف من مجتمع إلى آخر، أو تتغير في المجتمع ذاته بمرور الزمن، فمثلًا قد يصبح الشخص المهووس بالعلوم مثل أبطال مسلسل "نظرية بيج بانج" هو الرجل المثالي الذي تطمح الفتيات إلى الاقتراب منه.
ولكن المجتمع يعزز صورة معينة للذكر، وهذه الصورة لا تضر بالنساء فحسب، وإنما تضر بالرجال أيضًا، لأنها تخلق شرعية يتفق عليها المجتمع لهيمنة طبقة معينة من الذكور على النساء وعلى المجتمع ككل، وتخلق ضغطًا على الذكور الأضعف الذين لا تتوافق صفاتهم مع معايير الذكورة المهيمنة.
يستطيع الذكر الذي ينتمي إلى الفئة المهيمنة أن يفرض سلطته على ذكر آخر دون أن يستخدم العنف، مثلما يستطيع صاحب نفوذ أو موقع اجتماعي هام أن يفرض سلطته على ذكر آخر ذي مكانة اجتماعية أقل حتى بدون استخدام العنف، فقط بسبب هيئته، ومكانته، وامتيازاته، أما الطرف الآخر فيخضع لأنه لا يمتلك الامتيازات ذاتها، وهذا ما تعنيه الذكورة المهيمنة أو hegemonic masculinity.
ربما لا تستخدم الذكورة المهيمنة العنف، لكن هناك نوع آخر من الذكورة وثيقة الصلة باستخدام العنف، وهي الذكورة السامة toxic masculinity، وتستخدم هذه الذكورة العنف كأسلوب أوحد لحل المشكلات مع الرجال أو النساء، وتتسم أيضًا بالتحقير من شأن النساء، وتستخدم معهن العنف بالتبعية.
يمكنكم تذكر عدد المرات التي حضرتم بها معركة في الطريق العام واشتباك بالأيدي بين شخصين بسبب خلاف على أسبقية المرور مثلًا، أو معركة نشبت بسبب مباراة كرة قدم، ينعت فيها كل خصم الآخر بصفة نسائية للتحقير، كل ذلك ما هو إلا شكل من أشكال للذكورة السامة.
كيف تُصنع الذكورة؟
يمكن تشبيه عالم الذكور بأنه كيان هرمي، في أعلى الهرم تأتي طبقة من الذكور الذين يمتلكون الثروة، والقوة، والقدرة البدنية، أو النفوذ السياسي، وهم يهيمنون بهذه الصفات على الذكور الآخرين، وعلى النساء. هناك علاقات قوى بين الرجال وبعضهم وبين النساء والرجال، وقد تهيمن فئة من النساء على الرجال بفعل الطبقة وامتلاك الثروة أو السلطة.
ومن يمتلك الثروة، والموارد، يستطيع التحكم في وسائل الإعلام التقليدية، وأحيانًا غير التقليدية، ويحدد بالضرورة القيم المجتمعية المقبولة، بما إن الفكر السائد هو فكر الطبقة الحاكمة. يتبنى المجتمع هذه الأفكار فيما بعد، ويتوارثها، ويتحكم أيضًا في التشريعات والسياسات، التي تؤسس لهيمنة فئة معينة من الذكور بسمات معينة، أو نساء ذات فكر ذكوري، وتقمع كل من لا يتسم بهذه الصفات، من أجل ترسيخ الصفات المقبولة مجتمعيًا للذكر والأنثى، هذه الصفات تشمل:
- المغايرة الجنسية: فيكون الميل الجنسي المقبول هو فقط ذلك المتبادل ما بين "الذكور" والإناث". فـ "الذكر" صاحب الميول المثلية يشغل طبقة أدنى في هرم الذكورة، وترفض هذه المنظومة في المقابل مثلية الإناث وإن كان بدرجة أقل من الرجال.
- الشكل الذكري والأنثوي: أول طريقة للتمييز بين الذكور والإناث، بدايةً من الولادة، هي الملابس، فهناك ملابس للرجال، تميل للوقار، وأزياء للنساء، تتسم بالنعومة والأنوثة، لوضع النساء والرجال في قوالب، وللسيطرة على أجساد النساء.
- القوة البدنية والعضلية: فالجسم المثالي للذكر هو القوي بنيويًا، أو الجسم الرياضي، ويشكل ذلك ضغطًا على الأجساد غير النمطية، أو أجساد العابرين/ات جنسيًا، أو ضعيفي البنية، أو ذوي الإعاقة الجسدية، ويتسبب في معاناتهم أو محاولتهم الوصول إلى القوة البدنية.
- النفوذ السياسي: ويشغل مالك السلطة السياسية وبطل الحروب في أعلى هرم الذكورة، فهو المثال الفعلي للـ "الرجل الحقيقي" القائد، والبطل. حتى أن السياسيات القويات أو الناشطات السياسيات يُنعتن بصفات ذكرية أو يُقارن بالرجال من باب المديح مثل "فتاة بمائة رجل" أو كما وصفت أغنية إحدى الناشطات السياسيات بـ "كل الرجال سَلِّموا وسناء بطولها تقوم".
هل يوجد ذكور غير سامين؟
إن الصور النمطية المفروضة على الرجل، والتي تحدد صفاته وسلوكياته هي مفاهيم اجتماعية، وليست صورًا طبيعية يُخلق بها الذكور. وبناء على ذلك فإنه يُمكن أن نعلم الأطفال والفتية صورًا أخرى، وهي تلك التي لا تتقيد بتوقعات المجتمع من الذكر، سواء من جهة الشكل أو السلوك أو الصفات، ولا يُجبر الطفل نتيجة لها على التوقف عن التعبير عن مشاعره، ولا تجعله يلجأ إلى حل مشاكله مع زملائه بالعنف والشدة، وهي تلك التي لا تعتبر أن هناك صفات أنثوية وصفات ذكرية.
ومن الهام أن نعرف أن جنس الذكور ليس سامًا بطبيعته، لكن التنشئة الاجتماعية في المنزل وفي المدرسة وتأثير الإعلام والأعراف المجتمعية والأساطير وتأثير الأقران كلها تمرر وتعزز مفهومًا معينًا للذكورة منذ يوم الميلاد الأول. وهذه الصفات السامة التي نعتقد أن الذكر يولد بها، أو أنها حتمية، ما هي إلا نتاج علاقات غير متكافئة، وتمييز جنسي وطبقي وموروثات تمررها فئة مهيمنة من أجل الحفاظ على امتيازاتها.
وهذا التصور عن "الرجل الحقيقي" أو النموذج الأمثل للذكور يخلق ضغطًا عليهم ويَدهس في طريقه كل الفئات الأضعف.
مصادر:
The Adorkable Misogyny of The Big Bang Theory - YouTube
What Is Hegemonic Masculinity? Definition And How It Affects Us (herorise.us)
What Is Cultural Hegemony? (thoughtco.com)
Hegemonic Masculinity: 15 Examples, Definition, Case Studies (2023) (helpfulprofessor.com)
Hegemonic masculinity: combining theory and practice in gender interventions - PMC (nih.gov)
Masculinities | Raewyn Connell
Toxic Masculinity: What It Is and How to Address It (healthline.com)