جوديث بتلر.. الأمل في التحالف لا الشقاق

بقلم : أمير زكي



2024-07-23

في يناير عام 2021، وفي ظل تخوفات العالم من جائحة كورونا، والتأكد من جدوى اللقاحات المضادة له، وفي الوقت الذي شهد نهاية تولي دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية، وهي الإدارة التي مثلت انتكاسة للعديد من القضايا الجندرية والتقاطعية، أجرت الفيلسوفة الأمريكية البارزة جوديث بتلر حوارًا مصورًا مع صانع المحتوى البريطاني أوين جونز. ناقش الحوار العديد من القضايا الجارية في ذلك الوقت، ولم يتجاهل بالطبع النقاط البارزة في فكر جوديث بتلر، تلك النقاط التي مثلَّت الأساس التي عبَّرَت، بناء عليه، عن تعليقاتها في الشأن العام.

 

نترجم هذا الحوار في منتدى الجنسانية، وهو حوار يمكن أن يمثل مقدمة في فكر بتلر، هذا الفكر الذي يصير أيسر على الفهم في الحوارات الصحفية والمصورة بالمقارنة بالكتابات التي تعترف هي نفسها بصعوبتها. ويتيح لنا الحوار أيضًا معرفة النقاشات والنزاعات التي تدور حول شؤون الجندر وقضاياه في الغرب، وكيف يمكن أن نستفيد من الحجاج الدائر هناك في قضايانا المجتمعية عن الجندر في العالم العربي، ويمكن أن نقول إننا نعاني من نفس المشكلات تقريبًا، ولكننا نعبر عنها بشكل أقل صراحة ووضوحًا.

 

ولكن قبل أن نتحدث عن الحوار ربما علينا أن نمر سريعًا على فلسفة جوديث بتلر.

 

الفيلسوفة بتلر


يقسم بعض المؤرخين تاريخ النسوية إلى ثلاث موجات، سعت الأولى -التي امتدت من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية العشرين- إلى تحرير المرأة على المستويين السياسي والاجتماعي، في حين تجاوزت الموجة الثانية -التي بدأت في الستينيات- الفردية والإصلاحية التي اتسمت بها الموجة الأولى وسعت إلى الحراك الاجتماعي والثوري. ثم حلَّت الموجة الثالثة التي انطوت على ما يمكن أن نطلق عليه ما بعد النسوية، والتي أعادت التفكير في الثنائيات التقليدية مثل الرجل والمرأة والذكورة والأنوثة، وبعدما كان الأمر يقتصر على التفريق بين الجنس والجندر، انفتح الحديث عن تعبيرات الجندر المتنوعة. شهدت الموجة الثالثة أيضًا حدوث هبَّات رجعية، وعملية رسملة واستهلاكية للقضية النسوية، وكان من المهم التعاطي مع هذه القضايا، والسعي إلى أشكال أوسع من التضامن في مواجهتها.

 

هذه القسمة الثلاثية للتاريخ النسوي تتسم بالتعسف، مثل أي قسمة تاريخية، ولكن إذا قبلناها -على مضض- لتيسير فهمنا للتاريخ السياسي والفكري للنسوية ولرؤيته من منظور واسع، يمكننا أن نضع المفكرة والفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر في موضع التتمة للموجة الثانية والإرهاصة للموجة الثالثة، بالإضافة إلى أهمية اشتباكها مع القضايا المحيطة بهذه الموجة.

 

من أبرز إسهامات الموجة الثانية كان عمل الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار، ويمكن أن نذكر هنا مقولتها البارزة "لا تولد الواحدة منا امرأة، بل تصبح كذلك"، وهنا توجد تفرقة بين الجنس البيولوجي، وبين الجندر كدلالة اجتماعية. في المقابل تمضي بتلر من هذه النقطة إلى نطاق أبعد، فوفقًا لفتحي المسكيني في مقدمة ترجمته العربية لكتاب "قلق الجندر"، لا تتوقف بتلر عن مساءلة الدلالة الاجتماعية للجندر، بل تسائل الدلالة البيولوجية لهوية الجنس.

 

النوع الاجتماعي

 

هذه مسألة تناقشها بتلر في الحوار الذي نترجمه هنا، فهي تشير إلى المؤسسات الطبية والقانونية التي تحدد جنس المولود/ة عند الطفولة، وكيف تتحكم القوى الاجتماعية والقانونية في تأسيس الجنس البيولوجي عند طفل أو طفلة ما، وهذه القوة متغيرة ونابعة من موقف تاريخي بعينه.

 

لا تنكر بتلر دور البيولوجيا وتنوعها، ولكنها تشير إلى أن تحديد الجنس يتخلله العديد من الحريات السياسية والحقوق القانونية، التي تؤثر علينا على مر حياتنا.

 

يرتبط هذا بنظرية بتلر عن الأدائية الجندرية، إذ أن الجندر شيء نؤديه ونكرره ونقوله ونعبر عنه في أفعالنا، وهذه الأفعال التي نؤديها ونكررها، سواء عن حرية، أو لنتوافق مع المجتمع من حولنا، هي ما تجعلنا رجالًا أو نساء أو أي شيء آخر، ولكن حين يفرض علينا المجتمع تحديدًا بعينه، سيواجه العابر/ة أو المثلي/ة أو غير الثنائي/ة مشكلة في العيش أو الوجود ككل.

 

تشير بتلر في حوار لها مع الجارديان أن المسألة لا تقتصر على فكرة أن الجندر مفروض علينا كليًا، وهو أيضًا ليس من اختيارنا كليًا، إنما هو مسألة تفاوض مستمرة مع الأعراف الاجتماعية، أو لنقل الثقافية، الراسخة.

 

ولأن بتلر تعرضت لانتقادات رأت أنها قلصت الجندر على أنه أداء أو صياغة أو بنية لغوية، كررت الفيلسوفة مرارًا مثال القاضي الذي يصدر الحكم على المتهم (شفاهة)، ولكن هذا الحكم يؤثر على حياة المحكوم عليه. وقدرة القاضي المكررة على إصدار الأحكام، التي تبدو في الظاهر لغوية، تؤثر على الواقع والحياة اليومية.

 

الحوار مع جونز


يبدأ أوين جونز حواره مع بتلر من الجانب النظري، إذ يطرح عليها السؤال التقليدي الذي غالبًا ما تلقته الفيلسوفة في كل حواراتها الصحفية، وهو "ما الذي تعنيه بالأدائية الجندرية؟" شرحت بتلر المفهوم الذي بينَّاه بإيجاز سابقًا، ولكنها أشارت إلى أن هذا لا يعني أنها ما زالت تلتزم بأفكارها بشكل صارم، إذ أنها ألفت كتابها الأشهر "قلق الجندر" قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وما زالت تتعلم من النقاد، والأهم أنها تتعلم من العابرين والعابرات جندريًا، وبعضهم انتقد الكتاب، لأنهم يرون أن الجندر بنية أساسية وراسخة، لا أمر يجري التفاوض عليه في موقف تاريخي وفقًا لنظريتها.

 

كانت بتلر أيضًا من أوائل من ساهموا في ظهور مفهوم "الكويرية" ورسوخه، ولكنها تشير في الحوار إلى أن الكويرية التي كانت أشبه بموجة تحررية يمكن أن ينضم إليها الجميع، تحولت حاليًا إلى نوع من الهوية.

 

تنشغل بتلر بالبعد التحالفي في المفاهيم الفكرية والفلسفية التي تناقشها، فحين سُئلَت عن معنى التقاطعية أشارت إلى تاريخ المفهوم القانوني وتطوره، ولكنها عادت وأكدت إلى أن معنى المفهوم حمل مضمونًا تحالفيًا عابرًا للدول.

 

الجندر

 

جرى الحوار وسط جدال محتدم في أمريكا وأوروبا يتبناه بعض النسويين في مواجهة حقوق العابرين/ات جندريًا، والتشكك في أن المرأة العابرة جندريًا تعتبر امرأة بالمعنى المتعارف عليه، هنا تهاجم جوديث بتلر بعنف هذه الأفكار، المتمثلة في آراء الصحفية سوزان مور، لتتحدث عن أن التحديد المتعسف الذي يفرضه المجتمع قد يدمر حياة أي شخص، وأن احتكار جندر بعينه وعدم السماح بإدخال أي "آخر" فيه هو أمر كريه.

 

بتلر كانت أهدأ حين تحدثت عن تعليقات مؤلفة هاري بوتر ج. ك. رولينج، والتي فُهمَت أيضًا على أنها مناهضة لحقوق العابرات جندريًا تحديدًا، ومنعهن من حمل تصنيف المرأة. ولكنها دعت للارتقاء بالحوار وعدم مهاجمة رولينج بطريقة مهينة، ولكنها أشارت بذكاء إلى أن على أي شخص تعرض لصدمة مرضية سابقة وتعافى منها -ورولينج تحدثت كثيرًا عن ذكرياتها مع الصدمة- أن يتحمل مسؤولية عدم تمرير هذه الصدمة إلى من حوله، وهذا هو ما شعرت أن رولينج كانت تفعله.

 

يتلقى الفكر النظري النقدي، لنقل اليساري، أو المناهض للعنصرية أو العرقية هجومًا على مستوى مؤسسي في أمريكا وأوروبا، يقول جونز ساخرًا إن الحكومة البريطانية وسط الجائحة قررت أن تهاجم الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو. يردد الإعلام البريطاني العديد من التعليقات السلبية ضد مناهضة العنصرية البنيوية وضد ما بعد الحداثة، وضد ما يطلق عليه الماركسية الثقافية، وهنا تتوقف بتلر وتشير إلى أنها تشعر بأن نقد ما يطلق عليه الماركسية الثقافية ليس إلا نوع من مناهضة السامية، إذ أنه نقد موجه على الأغلب إلى مدرسة فرانكفورت الفلسفية، التي كان أبرز الأسماء بداخلها من اليهود الذين فروا من النازيين وعبروا عن آرائهم وأفكارهم المناهضة للفاشية ومساءلة بنية العالم الذي نحيا فيه ومؤسساته. تثير إشارة بتلر هنا الانتباه، إذ تُتهم هي نفسها بمعاداة السامية، رغم يهوديتها، لكونها تنتقد السياسات الإسرائيلية طوال الوقت، ولكنها طوال الوقت أيضًا تحاول التمييز بين اليهود والدولة الإسرائيلية.

 

أخيرًا تعبر جوديث بتلر عن أملها في المستقبل، "دائمًا هناك أمل"، ولكن هذا الأمل لا بد أن ينبني على نوع من التحالف، لنقل التحالف التقاطعي، الذي يضم المعوزين والملونين والمدافعين عن الحريات والحقوق الجندرية. ومثلما تتجاوز بتلر بفلسفتها الثنائيات الفلسفية تحاول أيضًا الدعوة لتجاوز الثنائيات التي تؤدي إلى الانشقاقات بين من يمكن أن يكونوا جبهة موحدة، مثل نموذج "النسويات في مواجهة العابرات" أو "المتوافقون جنسيًا في مواجهة العابرين" وغيرها من الثنائيات التي قد تفرِّق من يُفترَض أن يكونوا رفاق قضية واحدة.

 

التضامن

 

الترجمة نضالًا جندريًا


إذا تبنينا أفكار جوديث بتلر نفسها، واعتبرنا أن الجندر عبارة عن أدائية مستمرة، ومن ضمن هذه الأدائية تَمَثُّلُه من خلال اللغة، يمكننا أن نعتبر أن التفكير في الجندر عبارة عن ترجمة مستمرة.

 

سؤال ترجمة مفاهيم الجندر ومصطلحاته كان يشغل بال جوديث بتلر، سواء داخل لغتها نفسها أو في اللغات الأخرى. في لغتها نفسها تستعين بكلمات كانت في الماضي من مستويات لغوية مختلفة، لنقل غير أكاديمية، ويمكن أن نستشهد بانتقال كلمة كويري/ة من لغة الشارع إلى لغة البحث الأكاديمي. وفي اللغات الأخرى اهتمت بتلر بالنظر في طريقة ترجمة "جندر" للغات المختلفة، وأشارت إلى أنها لا تفضل أن ينتقل اللفظ الإنجليزي نفسه مع الترجمة، وإن كنا بالطبع نحتفظ بهذه الترجمة للفظ لأنها صارت شائعة في العربية، وتعكس الحمولة التي قد لا تحملها اختيارات أخرى مثل "النوع الاجتماعي" أو "الجنوسة".

 

خلال ترجمة الفيديو واجهت عدة تحديات مع مصطلحات مختلفة، ولا شك أن صعوبة المصطلحات وعدم وجود ترجمة شائعة لها في العربية كان يؤثر على تراكيب الجمل أيضًا، وبدا أن مهمة ترجمة الحوار المصور، الذي يبدو لأول وهلة أسهل من الكتب والأوراق البحثية، يحمل قدرًا من الصعوبة أيضًا.

 

وربما كان أبرز ما يمكن مواجهته في المصطلحات بعد الجندر والكويرية (المصطلحان اللذان نُقلا حرفيًا أو "نُقحرا") مصطلح Performativity المركزي عند جوديث بتلر، وقد ترجمه فتحي المسكيني في "قلق الجندر" بالإنجازية، ووجهة نظره أن الإنجازية تحمل داخلها مفهوم الأدائية وتتجاوزه، ولكن من وجهة نظري أن العكس صحيح أيضًا، بالإضافة إلى كون الأدائية Performativity في العربية من نفس جذر أداء Performance سيفيد في حالة تصريف اللفظ.

 

اخترت أيضًا أن أترجم transvestite على أنها "عابرو الملبس"، رغم أنها ترجمة غير شائعة للعربية، ولكنها دقيقة لهذا اللفظ اللاتيني ومقابله الإنجليزي cross-dressing، وذلك بدلًا من النقحرة الشائعة "ترانسفتايت"، كما أن هذه الترجمة العربية تخلو من أي حمولة تقلل من هؤلاء العابرين/ات، أو تضفي عليهم/ن حسًا مرضيًا مثلما في حالة ترجمة المصطلح بـ "شهوة الملابس المغايرة".

 

في حالة Drag queens، حاولت أن أختار حلًا وسطًا بترجمتها بـ "ملكات الدراج"، بدلًا من الترجمة المنقحرة، وعلى حساب ترجمة المسكيني "المتشبهون والمتشبهات" لأنه قد يُفهم من هذين اللفظين التقليل من شأنهما.

 

اللغة تشبه الجندر، وتتشابك معه، هي تتطور بالتفاوض المستمر معها، وتحتاج إلى أن ندفعها لتوسيع آفاقها، وهذا يعني أن الترجمة التي نتبناها اليوم قد لا تصمد إلى الغد، إذ مع الوقت يمكن لكل صاحب صوت أن يعبِّر بحرية عن صوته، ويختار الأسماء والكلمات المناسبة له أو لها.