جَندرة الثورة
قرأت مؤخرًا بعض المواد المتعلقة بأجندات نساء في ظلّ الحالة الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وحزنتُ. فقد كتبتُ قبل قرابة السنتين لموقع “قديتا” عن إرادة الشعوب العربية التحرّر من أنظمة مستبدة، وحلم الرجال والنساء بالمشاركة في تقرير مصائرهم/ن.
أما اليوم –وللأسف- فهناك محاولات لتقزيم أحلام الثورة، في حين بدأت تُختزل مطالب الثورة بمطالب عينية مثل السماح للنساء المشاركة بعمل مدني كالتظاهر السلمي وحرية التعبير عن الرأي دون الوقوع ضحايا لعنف جنسيّ.
وأتساءل: متى وكيف تحوّل مطلب المواطنة الكاملة غير المنقوصة إلى مطلب عدم الإساءة الجنسية؟
ما حصل في تشرين الأول 2012 من تحرش جنسي عنيف ضدّ مصريات حاولن ممارسة حقهن في التظاهر قبالة قصر الاتحادية في مصر، على مرأى ومسمع وتواطؤ السلطة، وما يحصل في ميدان التحرير مؤخرًا من محاولات اغتصاب جماعية لنساء وفتيات ناشطات بهدف إقصائهنّ عن العمل في المجال العام، لهو مؤشر خطير على مجريات الأمور وتأثيرها على حقوق الانسان بشكل عام وعلى النساء بشكل خاص؛ في مصر أولا وفي باقي الدول العربية المجاورة وذلك نظرًا لدور مصر التاريخيّ في المنطقة.
لا أدّعي أنّ ظاهرة التحرش الجنسي هي حالة جديدة في العالم العربي، وبالتأكيد ليس في مصر. أعي جيدا أنّ التحرش الجنسي المؤسس ضد المدافعات عن حقوق الانسان، له جذور عميقة في عهد النظام السابق كما تجلى في حادثة الأربعاء الأسود في 25 أيار/مايو 2005 حين تعرضت نساء متظاهرات لاعتداء جنسيّ وجسديّ غير مسبوق بهدف ردعهنّ عن المشاركة في الحياة العامة.
ومع ذلك توخينا ألا يتشابه ربيع 2005 مع شتاء 2013؛ فمن غير المقبول أن تتجمد مطالب النساء ويُعاد استخدام الشعارات ذاتها، قبل وبعد الثورة، وكأنّ الثورة قفزت عن حقوق النساء برغم مشاركتهن بشكل فعّال في إسقاط النظام الفاسد السابق. كما شاركت النساء الفلسطينيات قبلهنّ في إشعال الانتفاضة الأولى، وكما سبقتهن الجزائريات في دورهنّ الرائد في إنجاح ثورة الجزائر التحريرية. اليوم لا مجال للعودة إلى الوراء؛ الثورة أحدثت واقعًا جديدًا. قد يدّعي البعض أنّ الثورة استولت عليها حركات رجعية أو تم تأطيرها واختزالها بالحزب الحاكم، وبالتالي فالنساء هن أول المتضررات. ليس هذا موضوع المقال. لكن في أيّ حال، لا يشبه واقع اليوم واقعَ ما قبل كانون الأول 2011، حيث اخترقت ثورة الحرية والكرامة سقف المطالب التقليدية ولم يعد بالامكان القبول بتسويات مُذلّة ومن الطبيعي أنّ على أيّ معادلة أو منظومة اجتماعية سياسية جديدة، أن تحوي الجنسيْن على حدّ سواء، وأن تضمن حقوقهن وحقوقهم كاملة.
حالة الرفض هذه جليّة حتى في حالتي مصر وتونس علما بأنه جرت هناك انتخابات (ديمقراطية) عقب الثورة، إلا أنّ عدم الاستقرار السياسي في كلّ من البلدين يؤكّد عزيمة الشعوب على الاستمرار في النضال حتى نيل الحقوق كاملة.
بعض الاستطلاعات التي انتشرت مؤخرا والتي تعنى بقضايا المرأة في الشرق الأوسط وجدت أنّ على السلطات صبّ جلّ جهودها في تقوية النساء اقتصاديًا والحدّ من ظاهرة التحرش الجنسيّ، في حين بيّن أحد الاستطلاعات (Gallup 6/2012) أنّ قضية لبس الحجاب أو عدمه -والدين بشكل عام- لا تلعب دورًا هامًا في تحسين وضع المرأة المصرية.
استنتاج مشابه يمكن استخلاصه في أعقاب مشاهدة فيلم “مانموتش 2012″ للمخرج التونسي نوري بوزيد، بحيث برز أنّ ظواهر العنف الكلاميّ والجنسيّ والجسديّ التي تتعرض لها النساء التونسيات والمضايقات من أجل ردعهن عن أخذ دورهن في الحياة العامة، كانت من حصة المرأة المحجّبة واللامحجبة على حدّ سواء. ومع ذلك، لا يكفي التعامل مع موضوع المرأة من باب العنف أو من باب الانخراط في العمل، فقط، كي تكون المرأة العربية مواطنة كاملة.
ومن غير الممكن أيضًا عدم التطرق لظاهرة تدين المجتمع وتسييس الدين في العالم العربي وتأثير ذلك على مكانة المرأة. بل يجب النظر إلى كل هذه الوجوه وغيرها ودراسة الأسباب الجذرية لكلّ ظواهر الاضطهاد على أساس جنسيّ، بغية تحديد مصادر الإعاقة والتأخر ومن ثم إيجاد حلول ملائمة وطويلة الأمد.
هناك حاجة لوضع خطة كاملة وشاملة للنهوض بوضع المرأة كجزء من أهداف وبرنامج الثورة، حتى تصبح المرأة مواطنة تامة ومتساوية.
الثورة لم تنته بعد.
بعض البلاد تمرّ بمرحلة انتقالية بعد أن جرت فيها انتخابات، ولكن الحالة لم تستقر بعد، ومن غير المعقول أن نستخلص أنّ أهداف الثورة تحققت هناك؛ هيهات. كما أنّ دولا أخرى ما زالت في خضم الثورة وأخرى تمرّ في مرحلة مخاض عسير. برأيي، في كلّ واحد من هذه الأوضاع، يتشابه حال المرأة العربية.
ثمة أوجه عديدة لظاهره الكبت الممارَسة ضدّ النساء، وقد أصبحت للأسف واضحة بعد الثورة، والأنكى من ذلك نشوء بوادر لشرعنة وقوْلبة قانونية لممارسات اضطهادية جديدة قديمة ضدّ النساء والفتيات، من بينها يبرز تصريح نوّاب برلمان جدد في مصر حول نيّتهم العمل على خفض جيل الزواج الأدنى للفتيات إلى تسع سنوات، وإلغاء تجريم ختان الإناث.
وبرغم هامشية هذه التصريحات، فإنّ وقاحة طرحها علنًا تنذر بسيناريو سيء. بصورة مشابهة كثرت في تونس الدعوات إلى ضرورة رفع الحظر المفروض على تعدد الزوجات وتعديل قوانين الأحوال الشخصية. وفي كلّ من البلدين، كما أسلفنا، تجري المشاركة في الحياة العامة والسياسية في مناخ يتّسم بانعدام الأمن والهجمات على حرّية التعبير، بما في ذلك وصم النساء اللواتي يصدحن بأصواتهنّ. وثمة ظاهرة أخطر تتمثل في انخفاض عدد النساء الممثلات في البرمان على أثر الانتخابات، لا سيما في مصر حيث تدنّت نسبة النساء من 12% إلى 2%، وزد على ذلك رفض مجلس الشورى مقترحات لقانون الانتخابات البرلمانية- الذي أقرّ مؤخرًا- من “وضع المرشحات في النصف الأول من القوائم الانتخابية”، والسماح لتمثيل أفضل للمرأة في الانتخابات البرلمانية.
لا أقصد بث السوداوية والتشاؤم ولا تثبيط المعنويات، بالعكس؛ نحن نقف اليوم أمام فرصة تاريخية للنهوض بوضع المرأة العربية وبشكل جذريّ. من الطبيعيّ أنّ مسار دمقرطة الأنظمة والمجتمعات وتجذيرها في أذهن الناس يحتاجان إلى وقت طويل. ولكن من أجل استدراك الأمور حتى لا تجري في مسار لا يروق لفئات ومجموعات مجتمعية كبيرة، هناك حاجة ماسّة لجندرة مسارات وتطلعات الثورة (Gender Mainstreaming).
النساء موجودات عادة في مراحل الثورة الأولى لكن ظهورهن يغيب لاحقا في منصات اتخاذ القرار، خاصة في حالة وجود مجموعات تحاول الاستلاء على الثورة والتي لا تأبه بمصالح النساء، بل تعمل من باب المصلحة الحزبية الضيقة وترفض بذلك تمثيل كل فئات وأفراد المجتمع.
حتى لا نخسر نافذة الإمكانيات وحتى نشارك بشكل فعّال ومساو في صياغة وتطبيق أهداف الثورة، من المُلحّ التكتل والعمل سوية بواسطة إنشاء مجلس أعلى للنساء يضمّ كافة المجموعات والفئات النسائية الموجودة في مختلف الدول العربية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي بوسعها الوصول إلى أكبر عدد من النساء، على كلّ المستويات، المركزيّة والإقليمية والمحلية، في هذه اللحظة الحرجة من أجل مسح احتياجات جميع الفئات المختلفة وطرح تدابير خاصة من شأنها أن تكون استجابة لتهميش هؤلاء النساء لتحسين قدراتهنّ كمواطنات متساويات.
أخصّ بالذكر المرأة الريفية العاملة في الحقول الزراعية أو في المنازل، والتي تضطر لقبول العمل في ظروف مهينة، وتقاضي أجر مُتدنّ، وأحيانًا من دون أجر، والشباب، وخاصة النساء منهم، المتأثرات بالبطالة بصورة غير متناسبة، رغم وصولهنّ إلى مستوى عال من التعليم. وبعد جمع المعلومات وتبادل الأفكار والتجارب على صعيد إقليميّ، ندعو لمؤتمر عربيّ نسائيّ يهدف لإطلاق خطة شاملة للتعاطي مع وضع ومستقبل المرأة العربية من باب الثورة، ومن ثمّ بناء خطة معتمدة على تحليل المعطيات التي جمعت والتي لا تحمل في طيّاتها موازين القوى التي كانت سائدة قبل الثورة بل متحرّرة من أيّ علاقات سيطرة قديمة، وتأخذ بالحسبان أوجه الشبه والاختلاف في وضعية المرأة العربية، بحيث تسمح ملاءمتها لاحتياجات وأولويات النساء في كل بلد عربيّ.
فقط من خلال تعميق إستراتيجية التحرّر من قيود الماضي يُمكن للثورة أن تحقق معظم طموحاتها الثورية من حرية وكرامة وعدالة.